حرية الصحافة مرة أخرى

لماذا التراجع، وما هي حدوده؟

أصدرت منظمة (مراسلون بلا حدود) تقريرها السنوي لعام 2009 والذي يقيم مستوى حرية الصحافة في بلدان العالم في الفترة الممتدة من 1 سبتمبر2008 إلى 1 سبتمبر 2009. واحتلت البحرين المرتبة 119 متراجعة 23 ترتيباً عن عام 2008 حين احتلت المرتبة 96. أمَّـا على المستوى العربي فجاء ترتيب البحرين في المرتبة الثامنة، بينما احتلت المرتبة الخامسة على نطاق الخليج بعد كلٍ من الكويت والإمارات العربية وقطر وسلطنة عُـمان. ويقيس مؤشر الصحافة الذي تتبناه المنظمة مستوى الحرية التي يتمتع بها الصحافيون والمؤسسات الصحفية في كل بلد، إضافةً للجهود التي تبذلها الحكومات لاحترام وضمان وتعزيز هذه الحرية.

إلى أي مدى يعكس هذا التقرير مستوى حرية الصحافة في البحرين؟ وهل هنالك تراجعاً فعلياً؟ وما هي المعايير التي استند إليها التقرير؟ وكيف يُـمكن معالجة هذا التراجع؟

من المفارقات أنْ تصل منظمة (مراسلون بلا حدود) في عام 2009 إلى نتيجة مغايرة لما توصلت إليه في مارس 2008 بعد زيارة للبحرين توصلت فيها إلى وجود حرية نسبية بالمقارنة مع بقية دول الخليج بالرغم من الضغوطات الخفية على الصحفيين والقوانين المقيِّدة. وتوصلت المنظمة حينها إلى أنه لم يتم سجن أي صحفي منذ مارس 1999، أي خلال عشرة سنوات.

وفي مايو الماضي اعتبرت منظمة فريدوم هاوس، في تقريرها السنوي لعام 2009، البحرين ضمن قائمة الدول (غير الحرة) والتي تفتقر الى الحرية الصحافية، ووضعت البحرين في المرتبة 156 في مستوى الحرية الصحافية على مستوى العالم من مجموع 195 دولة.

تعتمد منظمة (مراسلون بلا حدود) في مؤشرها على استبيان يتضمن 40 سؤالاً يتناول معايير تقييم حالة حرية الصحافة في كل بلد، ويشمل الاستبيان الانتهاكات التي تؤثر مباشرة على الصحافيين كالقتل والسجن والاعتداءات البدنية والتهديدات والانتهاكات التي تتعرض لها وسائل الإعلام كالرقابة ومصادرة الصحف والتفتيش والمضايقة، إضافة إلى درجة الحصانة التي يتمتع بها المسئول عن هذه الانتهاكات لحرية الصحافة.

يبعث هذا التراجع على قلق المتابع للشأن البحريني، خاصة نشطاء حقوق الإنسان والعاملين في الحقل الصحفي في البحرين، في وقت تقترب فيه الإنتخابات النيابية والتي ينبغي أنْ تـلعب فيها الصحافة دوراً إيجابياً بارزاً. وعزا البعض هذا التراجع إلى إغلاق عدد غير قليل من المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، ولكنهم ميَّـزوا بين المواقع المسيئة، والمواقع التي تعبّر عن رأي معارض أو انتقادات، وإلى موقف الحكومة من بعض القضايا التي أصبح من الصعب تـناولها أو التطرق لها في الصحافة، وإلى القضايا المرفوعة ضـد الصحافيين (الوسط، 27 أكتوبر 2009).

وأضاف الأمين العام للجمعية البحرينية للشفافية عبدالنبي العكري بُعداً آخر لهذا التراجع تمثل في الرقابة المسبقة على أخبار الصحفيين، سواء من قبل رؤساء التحرير أو المسئول المباشر، أو من ذاتهم، وذلك حين يضعون أمامهم سوابق في (جرجرة) الصحافيين للمحاكم، بفعل دعاوى جاءت من جهات حكومية، كديوان الخدمة المدنية والمحاكم الشرعية. وعزا الأمين العام للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان عبدالله الدرازي تراجع البحرين في مؤشر حرية الصحافة بعد عام 2002 إلى صدور قوانين الإرهاب والتجمعات، إضافة إلى عدم حسم قانون الصحافة (الوسط، 23/10/2009).

يبدو أنَّ التحدي الحقيقي الذي يواجه البحرين الآن يتمثل في الإسراع بإصلاحات تشريعية في مجال الصحافة والمطبوعات. فقانون الصحافة والمنشورات، القانون رقم 47، الذي أصبح ساري المفعول في أكتوبر 2002 هـو الإطار الذي يحكم عمل الصحفيين والمؤسسات الصحفية، ولم يطاله تغيير أو تبديل رغم النقد الذي حظي به، ورغم الوعود الكثيرة بالتغيير.

وكان النائب عبدالله العالي، قد انتـقـد بشدة تمسك الحكومة بصيغة القانون الحالي للصحافة والنشر، واعتبر ذلك إبقاءاً لنهج القانون القديم المقيد للحريات، والذي صدر في حقبة أمن الدولة. (القدس العربي، 10/11 أكتوبر 2009). وأشار فاضل الحليبى، عضو المكتب السياسى ورئيس تحرير نشرة (التقدمي)، إلى رفض القوى السياسية والمؤسسات الصحافية للقانون المعمول به حالياً ووصفه بأنه يقيد فعلياً الحريات الإعلامية، ويفرض على الصحافيين عقوبات تصل حد الحبس بسبب مواقفهم وآرائهم، ودعا إلى تبني قانون عصري للصحافة والمطبوعات لا يحتوي في مواده على تقييد حرية الرأي والتعبير، أو حبس الصحفي على ما يكتب.

من جانبه، اعتبر النائب جميل كاظم غياب قانون مستنير للصحافة والمطبوعات والنشر يواكب التطورات السريعة والتغيرات الإعلامية، خصوصاً على صعيد الصحافة الإلكترونية والفضائيات، من شأنه أن يؤثر على مستوى حرية التعبير في البحرين (الوسط، 23/10/2009).

وكنا في (المرصد) قد تناولنا في تحليل متكامل مسألة حرية الصحافة في العدد الخامس من نشرة المرصد، يونيو 2009، تحت عنوان (أي مستـقـبل لحرية الصحافة في البحرين؟). وعلى ضوء التراجع الحالي لحرية الصحافة حسب مؤشر (مراسلون بلا حدود)، يُـعتبر التحليل الذي قدمناه مؤشرات استباقية وقراءة موضوعية هدفت إلى تفادي مثل هذه الإنتكاسات. وكنا قد أشرنا بكل جلاء ووضوح إلى:

أنَّ قانون الصحافة الحالي به عيوب واضحة حيث أنه ينص على عقوبات جنائية في حق الصحفيين. كما أنَّ إجراءات الترخيص لا تتسم بالمرونة المطلوبة خاصة لجهة ترخيص الصحف اليومية. وما زال الموقف من الصحافة الإلكترونية غامضاً لجـهة صلاحية منع وحجب المواقع الإلكترونية. وهذه الصلاحية تمارسها الآن وزارة الثقافة والإعلام. ويعارض الصحفيون وكثير من النواب هذه الصلاحية. وأجمع المراقبون على أنَّ أكثر من عـشـر مواد من القانون الحالي تحتاج لحذفٍ وليس الى تعديل لأنها معيبة وتـنـتقص من حرية الصحافة. كما لاحظ المراقبون بطء العملية التشريعية لعمل التعديلات اللازمة لقانون الصحافة والنشر، حتى تلك التعديلات التي تقدمت بها الحكومة منذ أشهر عديدة ما زالت تراوح مكانها.

وتقدمنا بعدة توصيات هامة نورد منها:

الحاجة الماسة لقوانين صحفية تـواكب مرحلة التحول الديمقراطي وتبني على مكتسبات المشروع الإصلاحي الذي أطلقه الملك. حيث تمنع تلك القوانين الحجز الإحتياطي للصحافيين وتجريمهم بسبب نشاطهم الصحفي. كما أن هنالك ضرورة لتوفير المعلومة أو تسهيل الحصول عليها بواسطة الصحفيين ونشرها، وتسهيل إجراءات ترخيص الصحف اليومية، وتوفير الحماية والحصانة الكاملة للصحفيين.

الجدير بالذكر أنَّ مجلس الوزراء أحال للسلطة التشريعية فى مارس 2008 مشروع قانون جديد للصحافة ينص على إلغاء عقوبة الحبس الصحفي، وما زال القانون أمام السلطة التشريعية للمناقشة والإعتماد. ولكن ما لم يستصحب مشروع القانون كل متطلبات حرية الصحافة وحماية الصحفيين، لن نرى تحولاً حقيقياً في مسار حرية الصحافة، بل ربما نرى مزيداً من التراجع وهذا ما لا نريده أنْ يحدث.

بيد أن تقرير مراسلون بلا حدود لا يبدو مقنعاً للمراقب الصحافي، فكيف توضع البحرين في الحرية الصحافية المتوافرة فيها في مرتبة (119) وهو أدنى مثلاً من سلطنة عمان (106) أو قطر (94) أو حتى الإمارات (86)؟! إن أي صحافي عربي يدرك حقيقة أن الحرية الصحافية في البحرين أكبر بكثير من بلدان عديدة بما فيها البلدان المذكورة أعلاه، وهذا ما يدفع للتساؤل حول طريقة التقييم والمعايير، إذ لا شك أنها معايير ناقصة تجعل النتيجة غير دقيقة.

نقول هذا، ونحن نعلم أن مستوى حرية التعبير في البحرين قد تراجع نسبياً عما كان عليه في السنوات الماضية، لكن تلك الحرية لا يمكن أن تقاس بعدد من البلدان التي وضعها تقرير مراسلون بلا حدود في مرتبة أفضل. لا نقول ان التقييم كان سياسياً، ولكنه ـ بنظرنا ـ يحوي قدراً من الإعتباطية، وربما استند الى معلومات مغلوطة.

فحتى الآن، تدور المشكلة حول قانون جديد للصحافة لازال جامداً عند مجلس النواب، وعلى منابر في الإنترنت تمّ إغلاقها، ولا يمكن لهذين العنصرين أن يشكلا مادة تجعل البحرين متراجعة نحو 23 مرتبة عما مضى في العام الماضي!، خاصة ونحن نعلم وهناك من يمارس النقد بمستوى عال، وهناك التعبير عن الرأي في الشارع والصحافة بحدود واسعة، فضلاً عن أن صحافياً واحداً لم يدخل السجن. كل هذا لا يلغي حقيقة الحاجة الى توسيع هامش الحرية، ولكن لأن الجدل اتجه نحو (المراتب والمستويات بين الدول) لذا فإنه يمكن القول بقليل من الحذر، بأن مستوى الحرية في البحرين سبق عدداً غير قليل من الدول التي وضعها التقرير قبلها.