تحليل ونقد:

التغطية الإعلامية الأجنبية للعنف في البحرين

استدعت أحداث العنف والشغب في البحرين ـ في أشهرها الأخيرة خاصة ـ شهية الإعلام الأجنبي لتغطيتها من داخل البحرين وخارجها بدون معوقات، خاصة مع تواجد مراسلين أجانب ومكاتب صحافية عديدة تعمل في العاصمة المنامة.

الحدث الساخن يجذب الإنتباه ويستقطب الإعلام كما هو معروف. ولذا، تداعت وكالات أنباء وصحف ومحطات تلفزة للقيام بمهمتها، فكانت التغطية ـ حسب رأي بعض الإعلاميين ـ أكبر مما تستحق.

ليس هذا هو موضوع الجدل، وإنما طبيعة التغطية الإعلامية نفسها، والتي وردت من مؤسسات إعلامية وصحافية شهيرة مثل رويترز، نيويورك تايمز، فاينناشيال تايمز، بي بي سي، الإيكونوميست، وغيرها.

ما خلصت إليه تلك التغطية ـ في إطارها العام ـ تضمّن الكثير من المبالغات والأخطاء كما تضمن قدراً من التأثير السلبي على الوضع المحلّي الذي كان ساخن فعلاً.

الآن، وبعد أن هدأت الأوضاع بقدر كبير، يمكن مناقشة وتحليل تلك التغطية الإعلامية وما خلصت إليه في النقاط التالية:

في تحليل الحدث:

  • ركّزت التغطية الإعلامية على أن ما يجري هو (صراع طائفي) بين الأكثرية الشيعية والأقلية السنّية تارة، وبين العائلة المالكة والشيعة تارة أخرى، أو بين طيف من الشيعة وفريق من السنّة (السلفيين) تارة ثالثة. ولا يخفى أن هذا التحليل بعيد عن الحقيقة، فمن كانوا يقومون بالشغب لا يعدون أقليّة، وإن كان صوتها مرتفعاً جداً الى حد الصخب. وكانت تلك الأقلية تمارس نشاطها تحت يافطة (مطالب شيعية). وحتى إذا كانت تلك المطالب مشروعة، فإن طريقة التعبير عنها لم تكن موجهة للسنّة، وإنما موجهة للدولة بكل أركانها، ذلك أن القائمين على العنف في الشارع لم يقيموا اعتباراً لا للقانون ولا للحكومة ومؤسساتها. هذا يعني، أن ما حدث من عنف وشغب إنما كان عنفاً مسيّساً، ولم يكن (صراعاً طائفياً) وكان ذلك العنف من أجل تحقيق غايات سياسية بطرق لا يقرّها القانون.
  • التغطية الإعلامية صوّرت أن الأقليّة التي تصدّرت الأحداث وكأنّها تمثّل أكثرية الشعب، وهو زعم لا زال يتردد من تلك الجهات المتصدّرة بأن مطالبها تمثل مطالب أكثرية الشعب. وهنا أيضاً وقعت وسائل الإعلام في خطأ آخر، إذ أن هناك شبه اتفاق على بعض المطالب، ولكن هناك اختلاف حول طريقة تحقيقها، بالوسائل المشروعة والسلمية ـ وهذا ما تقول به الأكثرية ـ أو عبر العنف والشغب، وهو ما كانت تقوم به الأقليّة. ثم إن هناك مطالب بقيت محصورة في فئة التشدد وحدها، ومثال ذلك أن أحداً غيرها لم يطرح مسألة تغيير العائلة الحاكمة وإسقاطها، وعدم احترام الأسس التي قام عليها بنيان الدولة والمطالبة بإعادة النظر فيها.
  • ما حدث من عنف وشغب تم ربطه بتحريض أو تسهيل خارجي من قبل بعض الدول (إيران، سوريا، بريطانيا). إن وجود أطراف خارجية يهمها توتير الوضع الداخلي لا يجب أن يتضخم الى حدّ التغاضي عن القضايا المحليّة التي تساهم في ظاهرة العنف والشغب غير المبررة وغير المقبولة مهما كانت الأسباب.
  • في تغطية أحداث العنف، كان هناك من صوّر ما يجري، وكأنه صراع بين (دعاة حقوق الإنسان) وبين الحكومة (التسلطية) التي لا تراعي حقوق الإنسان، وتنتهك المواثيق الدولية؛ وكأن البحرين لا يوجد بها حتى هامش ضئيل للتسامح وللحريات العامة، بل قمع شديد لكل المعارضين. هذه الصورة، كانت تظهر بين الفينة والأخرى في بعض التقارير، وهي أيضاً لم تكن صحيحة ومنصفة، كما لم تكن مفيدة لدعاة حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين البحرينيين. هذه صورة نمطية قد تكون صحيحة عن الحكم في عدد من البلدان في الشرق الأوسط عامة، ولكنها أبعد ما تكون عن البحرين، وهذا ما يقوله كل منصف ومراقب. البحرين ليس فيها سجين سياسي واحد، ولا سجين رأي. والبحرين بحجمها الصغير تعيش مناخاً اعلامياً حراً وانتخابات تشريعية حرّة، وبها المئات من منظمات المجتمع المدني. ولو قبلنا بهذه الصورة السوداوية التي ظهرت في بعض التغطيات الإعلامية، فإن ذلك يعني أننا نقبل بما تحمله في طياتها من دعوة راديكالية يائسة للتغيير. نعم، لم تتحول البحرين الى واحة للديمقراطية بعد، ولكنها قطعت شوطاً معقولاً في احترام حقوق مواطنيها وقاطنيها منذ بداية عهد الإصلاحات عام 1999، ولازال الناشطون السياسيون والحقوقيون يطالبون بالمزيد.
  • التغطية الإعلامية لأحداث العنف لم تكن متوازنة، فهي في أكثرها قد تبنّى وجهة نظر التشدد ومن يقف وراءه. لم يكن رأي الحكومة، والأهم رأي منظمات المجتمع المدني وخاصة الجمعيات السياسية (الأحزاب) ذات التأثير الفاعل في الساحة، لم يكن رأيها إلاّ مغيّباً، في بعض الأحيان بشكل تام، وفي أحيان أخرى يُمنح الرأي المخالف مساحة صغيرة في التعبير. وهذا قدّم للقارئ صورة مختلّة للأحداث، وكأن البحرين بمجملها لا يوجد بها سوى لاعب سياسي واحد رغم التعدد الكبير الذي نعرفه. إن رأي القوى المتشددة في أساسه غير متوازن، وبياناتها لا تتحدث عن جميع جوانب المشهد السياسي، وكان يهمها تقديم صورتها على أنها الحقيقة وحدها، فيما تمّ تجاهل مسائل العنف والشغب والتخريب، وكأنها بلا محرّض وبلا دوافع. بل أن قوى التشدد سعت لاقناع الرأي العام المحلي والدولي بأن ما يجري من عنف مجرد (تعبير عن الرأي)! وأن من يتحمل مسؤولية العنف هو (الحكومة) وحدها! هذه صورة مشوّهة عن الأحداث.

الأسباب:

لماذا كانت التغطية الإعلامية الأجنبية للأحداث في البحرين غير موفّقة وجانبت الحياد والموضوعية بقدر لا بأس به، فساهمت في توتير الساحة المحليّة، وشجّعت القوى المتشددة على المضي في طريقها؟

  • الأسباب متعددة، والمسؤولية عن ذلك تتحملها وسائل الإعلام نفسها المعنية بتلك التغطيات، مروراً بالحكومة البحرينية، والجمعيات السياسية البحرينية، ومنظمات حقوق الإنسان المحلية.
  • بالنسبة للحكومة، فقد كان أداؤها الإعلامي ضعيفاً الى حد الغياب. هذا لا يعني أن رأي الحكومة (صحيح) دائماً، ولكن حضوره في وسائل الإعلام كان يمكن أن يحدث بعض التوازن في تلك التغطية التي نتحدث عنها. مسؤولو الإعلام الرسمي كما المسؤولين الآخرين لم يتواصلوا مع المراسلين الأجانب المقيمين في البحرين، ولم يطرحوا وجهات نظرهم بما يكفي، فضلاً عن أن يتواصلوا مع المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم. وفي المقابل كان حضور القوى المتشددة واضحاً في تلك الوسائل، وكانوا يجيدون لعبة الإعلام والتواصل مع القائمين عليه بشكل أفضل من المسؤولين الحكوميين، الذين كانوا يفتقدون الى الخطاب المتجدد، والرؤية الواضحة، والرد السريع.
  • ثم إن الجناح السياسي المعتدل في المعارضة، والذي يمثل الأكثرية الشعبية، كما أكدت ذلك الإنتخابات، ارتأى عدم التصدّي الإعلامي، وربما كان قد قرر الإبتعاد عن الإعلام وعدم اعطاء رأيه بشكل متواصل. كان هذا الجناح مشغولاً بالعمل السياسي الداخلي، وكانت كوادره قد غابت عن مجرى الأحداث طيلة أشهر عديدة، إلى أن تصدّت ثانية وأعادت الأمور الى ما كان يجب أن تعود إليه، وأنجزت بالتعاون مع الحكومة العفو الملكي الأخير، وإطلاق سراح الموقوفين، وأعادت الهدوء الى الساحة، وإن كان من المتوقع أن تعاود قوى التشدد ممارسة هوايتها في أعمال الشغب مرة أخرى.
  • كان وجود نشطاء يحملون يافطة حقوق الإنسان ويدعمون مشاريع سياسية ذات صبغة عنفية عامل إرباك وتضليل لمنظمات حقوق الإنسان الدولية ولوسائل الأعلام الأجنبية. وهذا ما دفع بها الى إصدار بيانات غير دقيقة أو تصوير الأمور على أنها صراع بين دعاة حقوق الإنسان مع حكومة قمعية تسلطيّة. دعاة حقوق الإنسان هؤلاء ليسوا في واقعهم إلا (حزباً سياسياً) بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومراقبة عملهم وتحالفاتهم وخطابهم يكشف عن هذه الحقيقة.
  • وسائل الإعلام الأجنبية كان لديها تصور نمطي لطبيعة الحكم في الشرق الأوسط. فهي في المجمل ترى صورتين واضحتين: دول ديكتاتورية وهذا يشمل كل البلدان العربية، ودولة ديمقراطية واحدة هي اسرائيل. هذه الصورة النمطية جعلتها تستسهل تحليل الأوضاع في بلدان الشرق الأوسط. فدائماً هناك حكومات ديكتاتورية تستحق الإدانة، دون أن تلتفت الى حقيقة أن هناك تفاوت كبير بين دول الشرق الأوسط في عمق استبدادها، وطبيعة حكمها، خاصة وأن هناك أكثر من دولة تتحول باتجاه الديمقراطية.
  • لقد جرى ربط الأحداث السياسية والعنفية في البحرين بمنظومة تحليل أشمل إقليمياً ودولياً، بحيث أخرج الحدث من طابعه المحلي، الى الصراع الإقليمي، وحتى الدولي، الأمر الذي أعطاه حجماً أكبر بكثير مما يفترض أن يكون. هناك دول استثمرت الحدث وغطته في وسائل إعلامها من زاوية طائفية، وكأنه صراع وهابي شيعي، يأتي ضمن نطاق صراع النفوذ بين الدول الكبيرة في الشرق الأوسط. وهناك إعلام غربي وسّع الأمر فربط بين ما يجري في البحرين بإيران ونفخ فيه، وبهذا اعتبر الأمر صراعاً بين إيران والولايات المتحدة الأميركية في الخليج. الإعلام الإيراني من جانبه غطّى الحدث من زاويته وأخرجه من محيطه المحلي الى صراع أكبر في الدائرة الإقليمية والدولية. وهكذا توفرت للحدث ميزة فريدة من حيث الإهتمام والتغطية من مختلف الخصوم والمتنافسين في المنطقة، ولكن على حساب الحقيقة.