حماية التسامح بمواجهة الطائفية

التسامح كمفهوم وكقيمة وكفضيلة، يمثل حلقة متصلة بجملة من المفاهيم والقيم الإنسانية الكبرى، ما يجعله بمثابة البوابة لخلق مجتمعات متآلفة ومتعاونة، رغم تنوّعها الثقافي والديني والعرقي واللغوي.

وبالنسبة للبحرين فإنها معنية بموضوع التسامح، كونها بلد يتعايش فيه المسلم السنّي والشيعي والإسماعيلي، مع المسيحي، واليهودي، والبوذي، والهندوسي، والسيخي، والبهائي. لم يكن وجود كل هذا التنوع في البحرين ـ ومنذ القدم ـ صدفة؛ ولو كان كذلك، فلنا أن نتساءل: لماذا لا يوجد مثيل لهذا التنوّع في أيّ دولة خليجية أخرى.

لقد احتضنت البحرين هذا التنوع منذ القدم، وما كان ذلك ليتم لولا وجود خصلة التسامح الديني بين الجمهور، والحكومة أدركت منذ عقود طويلة بأن هناك قابلية إجتماعية لاحتضان هذا النوع من التنوّع الذي يعبّر عن نفسه على شكل كنائس، ومساجد وحسينيات، ومعابد، وتجمعات دينية، ومنظمات مجتمع مدني، وممارسة شعائر، ومدارس خاصة، وأعياد، وعطل خاصة، وغيرها.

البحرين معنية باستمرار حالة التسامح، لتأكيد القيم الإنسانية الجامعة، والشراكة في الأرض والمنفعة، ولتربية الأجيال على حقيقة أن البحرين تتمتع بثراء كبير في تنوّعها الثقافي وغيره، وأن هذا التنوّع ـ وعبر التسامح ـ لا يمثل أسواراً وغيتوهات، بقدر ما يشكل فرصاً للإنفتاح والحوار والإثراء.

في هذا الزمن ـ حيث تطلّ الطائفية بوجهها القبيح ـ يفترض البحث عن مشاريع تقرّب المتنوّعين، وتمنع من إقامة السدود والحواجز، وتفوت الفرص على المتشددين الذين قد يسعون الى استيراد أفكار التشدد من خارج الحدود.. مشاريع تلغي أية إمكانية للإستقطابات الإجتماعية والسياسية على أسس أيديولوجية أو عرقية وطائفية أو على أساس الانطباعات النمطية.

بدون التسامح، وبدون مظلّة القانون؛ وبدون مساحة من الحريات، فإن أبواب الشرّ قد تنفتح سعياً لتحويل التنوّع من (ميزة) للبلاد الى (ثغرة) في بنائها، ومعها تصبح البلاد بلا حصانة فتتغلغل فيها فيروسات التعصب والكراهية، وفلسفات التضليل القائمة على احتكار الحق والحقيقة لتشلّها وتعكر صفو عيش أبنائها.

للحفاظ على صفة المجتمع المتسامح، ولتحصين بلادنا من التعصب والكراهية التي لا تقف عند حدود الدول.. نحن مدعوون للبحث عن برامج وسياسات جديدة تعزز حالة التسامح، وتنقله الى الأجيال الجديدة عبر التعليم والتربية والمنبر الديني وغيره. ونحن مدعوون أيضاً الى التعاطي السوي مع جميع من يقطن البحرين، مواطنين ومقيمين، بلا تمييز أو إجحاف حقوق، فهذا ما يؤكد التسامح على الأرض، وهو ما يمنع من بروز نظرات دونية ونمطية غير متسامحة تجاه الآخر.

خطر الطائفية

غير أن هذا التسامح في البحرين مهدد اليوم بتنامي منسوب الطائفية في المجتمع، بما يهدد النسيج الإجتماعي، ويزعزع الاستقرار، ويصادم حقوق الإنسان في مبادئها الأساسية.

الطائفية نقيض مبادئ حقوق الإنسان، كما هي نقيض للإصلاح ومشاريع الإصلاح.

لا يمكن ان يكون هناك مشروعٌ إصلاحي حقيقي، ولا احترام لحقوق الإنسان في بلد ما، إن كانت الطائفية معشعشة في أركانه السياسية والإجتماعية وفي نخبه الثقافية والدينية.

الطائفية نقيض لفكرة المواطنة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. إنها تشرعن التمييز بين البشر كما بين المواطنين. فلمجرد أنك من هذا الدين أو ذاك المذهب، تصبح مواطناً من الدرجة الأولى، أو من الدرجة الثانية، لك حقوق أو عليك تبعات تختلف عن غيرك. هذا خلاف العدل والروح الانسانية السويّة. إن ممارسة الطائفية يشكل عائقاً أمام تمتّع المواطنين بحقوقهم التي أقرها الدستور والمواثيق الدولية عامّة.

الطائفية تتنكّر لحقيقة بديهية أن الناس ولدوا أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، كما تتنكر لحقيقة أن التنوّع الثقافي والمذهبي ـ كما في البحرين ـ مصدر إثراء وتقدّم ورفاهية المجتمعات عامّة. ويفترض أن نسلّم بحقيقة التنوّع في بلادنا، وفائدته، وتقديره حقّ قدره، وحمايته وقبوله، بل والدفاع عنه، وعدم النظر اليه كمصدر للفتنة والخطر وعدم الإستقرار.

والطائفية فوق هذا تعمل على النقيض من مبادئ حقوق الانسان العالمية التي تؤكد على مبادئ المساواة وعدم التمييز الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تشجع على احترام الحريات الأساسية للجميع دون تمييز من أيّ نوع سواء على أساس العنصر او اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره، أو الأصل القومي أو الإجتماعي أو المولد وغيرها.

والطائفية من طبعها إشعال الكراهية والتعصب تجاه الآخر، أياً كان، فما بالك إن كان مواطناً؟! الطائفية مصنع متكامل للأحقاد والبغضاء والكراهية العمياء، كما أنها محرّض في الوقت نفسه على الفتنة والإعتداء على الآخر المختلف والتعدّي على كرامته كبشر قبل أن يكون مواطناً. إنها ليس فقط تمنع إقامة علاقات طبيعية وودية وسلميّة فيما بين المواطنين، بل أيضاً هي سبب لكثير من النزاعات المحليّة. إن الطائفية أداة فعّالة في تخريب السلم الاجتماعي، وتهديد أمن المواطنين، بما ينعكس سلباً على الاستقرار السياسي، وعلى حياة الناس اليومية بشكل مباشر.

الطائفية نقيض لكل القيم التي جاءت بها الأديان وفي مقدمها الإسلام، وأقرّتها البشرية في مواثيق حقوق الإنسان، من عدالة وتسامح وحرية وأخوة واعتدال ومساواة وغيرها. ولا يمكن قبول أيّ مذهب يدّعي الأفضلية معتمداً على أسس عنصرية زائفة، أو على مزاعم امتلاكه الحقيقة الدينية، والفرقة الناجية.. فهكذا مدّعى غير مقبول علمياً، ومدان أخلاقياً، وظالم لأتباعه كما للآخرين، كما أنه خطير اجتماعياً كونه يؤسس انشقاقات مجتمعية ويزرع الفتن والتعصّب ويمهّد الطريق لعدم الاستقرار.

وبديهي ان ارتفاع منسوب الطائفية في التعبير السياسي، أو في المنابر الدينية، أو في السلوك العام للأفراد والمؤسسات: خطر، وينمّ عن ضيق أُفق، خاصة وأننا نطلّ على نوافذ عديدة من الصراعات الطائفية في المنطقة، ونستشعر كم هي المأساة التي تخلفها. ان الانجرار وراء عاطفة طائفية غير معقلنة، وغير منضبطة بضوابط الإسلام والدستور والقانون، يحمل اساءة كبيرة للوطن والمواطنين. إنه يحمل شواهد إساءة استخدام هامش الحرية المتاح، وإساءة استخدام السلطة التي يتمتع بها بعض الأفراد.

المسؤولية المشتركة

من غير الممكن إلغاء الروح الطائفية، فهذه مهمّة تفوق قدرة أيّة دولة. ولكن يمكن خفض حدّتها، وتنظيم الاختلاف الطائفي وضبطه. وهذا الأمر لا يمكن ان تقوم به الحكومة بمعزل عن القوى السياسية والاجتماعية الأخرى.

الحكومة مسؤولة عن ضبط الخلاف المذهبي ضمن اطار محدد أن لا يتحول الى صراع اجتماعي. بمعنى أنها مسؤولة ومطالبة بالتدخل لتمنع انزلاق المجتمع الى فتنة. وهذا يعني انها مطالبة بوضع التشريعات التي تجرم العمل الطائفي، والقوانين الرادعة لمن يثير الفتنة، كما عليها ضبط المنابر الدينية والاعلامية بقوانين تضمن بها عدم الإثارة.

الحكومة مسؤولة أيضاً عن حيادية أجهزتها ورجالها عن الصراعات والممارسات الطائفية، وإلا أصبحت جزءً من الصراع نفسه، وبذا تفقد أبويتها، وقدرتها على تمثّل دور الحَكَم بين المختلفين، وكونها عامل التوازن الاجتماعي والسياسي. دور الحكومة هو (تنظيم الاختلاف الطائفي وضبطه بموازين القانون) ولا يتم هذا إلا عبر تحصين مؤسسات الدولة من السلوك الطائفي، والتشديد على المسؤولين والموظفين بعدم الانحياز الطائفي بأيّ صورة من الصور.

والحكومة مطالبة في نفس الوقت بالإستمرار في احترام حرية التعبير الديني، وباحترام القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان، ولا يجوز ان تتحول عمليّة الضبط الى قمع او ارتداد عن المبادئ العامة التي جاء بها الميثاق الوطني والدستور. خاصة وأن فسحة الحرية وسيلة من وسائل ضبط الطائفية وخطابها ومثيريها، وليس العكس، فالتعسف يؤدّي الى نتائج عكسية ويزيد من لهيب الطائفية.

والحكومة تتحمل مسؤولية إيجاد البرامج لتقريب وجهات النظر المختلفة، ووضع المشاريع فوق المذهبية/ الوطنية التي ترسخ حالة الاستقرار والاندماج الاجتماعي والسياسي، بحيث تكفل السلم المجتمعي، ومبادئ المساواة.

نخبة المجتمع مسؤولة أيضاً، فالطائفية حالة نخبوية وهي التي تغذّي الجمهور بمشاعر القلق الطائفي المفتعل. النخب المختلفة فشلت في إيجاد مؤسسات مشتركة اجتماعية او خدمية أو سياسية أو بيئية او دينية. من المعيب أن تتعزّز الفواصل في السكن غير المختلط، والأحياء غير المختلطة؛ ومن المعيب أن الزواج المختلط يأخذ وجهة تراجعية بدل أن يزداد. ومن المعيب أن تحصر جمعيات خيرية خدماتها لبعض السكان دون البعض الآخر، بلا مبررات دينية ولا إنسانية.

والتطييف حالة قابلة للإستشراء، في حلقات مترابطة. الخطاب الطائفي في البرلمان، ينعكس على الصحافة والشارع، والطائفية في مؤسسات المجتمع المدني قد تغيّب حتى الروح والمشاعر الانسانية كما في الجمعيات الخيرية. وطائفية الخطاب الديني تؤثر في الخطاب السياسي وتجعله طائفياً، وهكذا.

بيد أن مؤسسات المجتمع المدني بالذات ينظر اليها عادة على أنها بعيدة عن التقسيمات الطائفية والعرقية، وأن دوافعها إنسانية/ وطنية محضة، وبدون ذلك تفقد مبررات وجودها. ولقد وجد للأسف بين الجمعيات الأهلية من يعتمد الخطاب الطائفي كنهج ثابت ومستمر، في بياناته وأدبياته واستراتيجيته.

إن التخلي عن الخطاب الطائفي، دليل نضج الفرد والمجتمع، ونضج الجهة التي تمارسه دولة أو حزباً أو جمعية أو وسيلة إعلامية. إن هذا التخلي هو المطلوب كحدّ أدنى في هذه المرحلة، على أمل أن تتبعها خطوة أخرى تتمثل في المشاريع والمؤسسات المشتركة. نحن نطمح الى يوم توجد به جمعيات سياسية تمثل المواطنين من مختلف المذاهب، والى جمعيات خيرية تقدم خدماتها الانسانية الى كل المواطنين، والى مؤسسات مجتمع مدني يساهم فيها الجميع وتخدم الجميع.