حقوق الإنسان والتجاذبات السياسية

إن تطوير سجل حقوق الإنسان في البحرين مكسب لجميع سكانها، مواطنين ومقيمين. كما أنه مكسب لكل الفئات الإجتماعية والسياسية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني. وسواء كان هذا التطوير قد جاء في سياق إحداث تشريعات جديدة، أو في إعداد البنية التحتية التي تؤهل وتبني قدرات الجهات المتصل عملها بالملف الحقوقي، كالقضاء والشرطة والنيابة العامة وغير ذلك؛ أو جاء في سياق التراجع عن الإنتهاكات التي تقع كتعويض الضحايا ومساءلة المتسببين.. فإن هذا الفعل والجهد مقدّر ولا يجب أن يكون ضمن التجاذب السياسي، بحيث يعتبر فريق سياسي أن الإصلاح والتطوير يحوي إدانة للذات أو يستخدم كأداة من أدوات التشهير والتنديد.

على العكس من ذلك، فإن الإعلان عن تقدير هكذا جهود إصلاحية حقوقية يدلّ على نضج قوى المجتمع السياسية والمدنية، ويساهم في خلق مناخ مواتي للقيام بالمزيد من التطوير ومنع وقوع الإنتهاكات، لتصبح حرمة الإعتداء على حقوق الإنسان عملاً مستمراً والإصلاح الحقوقي جهداً مقدّراً.

بيد ان هناك من يعتقد بأن إلزام حكومة البحرين نفسها بالتعهدات أمام المؤسسات الحقوقية الدولية؛ والإعتراف بالأخطاء والقيام بالإصلاحات، وتطبيق التوصيات المتعلقة بحقوق الإنسان، ما هي إلا دلالة على ضعف الحكومة، وتعدّ مكسباً للمعارضة. ما يفهم من ذلك ـ ومن وجهة نظر هؤلاء ـ أن الصحيح بنظرهم هو: الإستمرار في الخطأ، وأن تتحول البلاد الى دولة بوليسية، حتى تثبت الحكومة أنها قويّة وشجاعة!

هذا منطق أعمى، فالحكومة ممثل لكل المجتمع، ومن أول مهامها: حرصها على صيانة حقوق مواطنيها والعمل على توفير وإفشاء العدل بينهم، وتوفير الرفاهية. وإذا ما تحوّلت الحكومة الى عكس ذلك ـ كما يريد هؤلاء ـ فإنها تكون قد فرّطت في أصل وظائفها، وتخلّت عن أبويتها، وفتحت على مجتمعها وعلى نفسها أبواباً من الشر، وبذا تتنزّل من مقامها الرفيع الذي يجب أن تكون عليه، الى مجرد طرف في الصراع، تكون فيه قامتها مساوية لبقية القامات المختلفة معها.

وبالعكس من ذلك، هناك من يرى بأن التعهدات الحكومية ونجاحها في تطبيقها يعدّ ضرراً للمعارضة، التي قد يعجب بعض أطرافها أن تستمر الإنتهاكات، وأن تقع الحكومة في المزيد من الأخطاء، بدل أن تقوم بالإصلاح، فذلك يوفر لها مبررات الصراع، ويرفدها بالدعم الجماهيري، ظنّاً منها أن ذلك يمكن أن يترجم في النهاية على شكل تنازلات سياسية. ولعلّ هذا يلقي بعض الضوء على أسباب رفض أكثر اطراف المعارضة المشاركة في تطبيق توصيات المراجعة الدورية الشاملة، وكذلك توصيات بسيوني، وهو ما يفسر أيضاً عدم الإلتفات والتقدير لما تنجزه الحكومة في هذا الصدد.

هذا النوع من التفكير في جانبي الموالاة والمعارضة يمثل ضرراً حقيقياً لحقوق الإنسان والمجتمع المدني البحريني.

فعلى سبيل المثال، وحسب بيان المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والتي زار وفدٌ منها البحرين في شهر ديسمبر الماضي، فإنها ستقوم بالعديد من البرامج المتصلة ببناء القدرات والتدريب وغيرها، فيما لكثير منه علاقة بمشاركة المجتمع المدني والمعارضة السياسية. فهل ستشارك الأخيرة في هذا؟

وقبل ذلك، هناك توصيات جنيف التي قبلت بها حكومة البحرين في شهر سبتمبر الماضي، والتي تتطلّب هي الأخرى مشاركة مدنية. بوسع المجتمع المدني الذي شارك العديد منه في اجتماعات جنيف تلك.. المساهمة في تطبيق التوصيات، ولا يوجد مبرر لعدم مشاركته، لأن هذا هو دوره المنصوص عليه في آلية المراجعة الدورية الشاملة التي اعتبرته شريكاً أساسياً للحكومة. بل أن لوائح الآلية تتيح للمجتمع المدني المشاركة في المشاورات السابقة لإعداد التقرير الوطني للدولة المعنية.

إذا أردنا معرفة عمق الحقيقة، فإن قبول حكومة البحرين بالتوصيات في جنيف وما جرى بعدها بشأن برامج المفوضية السامية لحقوق الإنسان.. يشكل انتصاراً لحقوق الإنسان، ولمنظمات حقوق الإنسان، بل وحتى للمعارضة التي تطالب بتحسين وضع حقوق الإنسان، كما أنه انتصار لحكومة البحرين نفسها.

إذا كنّا ننظر الى الموضوع حقوقياً محضاً، فهذه هي النتيجة الحقيقية.

أما إن كانت النظرة سياسية، فسنرى تراشقاً كما جرى في جنيف مؤخراً بين أطراف متصادمة من المجتمع المدني البحريني، والذي ولّد انطباعاً سيئاً عن الوفود الحقوقية البحرينية الأهلية.

لطالما زعم الجميع انهم مع حقوق الإنسان، وها هي الحكومة الآن تقول بأنها ستطبق التوصيات، وتعهدت دولياً بذلك أمام مجلس حقوق الإنسان، فلماذا لا يُبنى على ذلك ويتم التعاون في هذا السبيل، بعيداً عن الأجندات السياسية؟

من الناحية النظرية، لا أظن أن أحداً لا يريد تطبيق توصيات بسيوني أو توصيات جنيف، خاصة من منظمات ونشطاء يعرّفون أنفسهم حقوقياً. فبدلاً من الشجار والإتهامات، هناك فرصة للتعاون في إنجاز تلك التعهدات، ومراقبة الحكومة عن كثب، وصياغة الردود، وتقييم الإنجازات أو التقصير، بعيداً عن التصنيفات والمواقف السياسية. إن لم يحدث ذلك، ففي ظني أن حقوق الإنسان البحريني هي الخاسر الأكبر.

ومن جانب الحكومة، فإنها يجب ان ترحب بمشاركة المجتمع المدني وتصرّ عليها، وتسمح له بلعب دور حقيقي، وليس شكلياً، وأن يكون صدرها واسعاً في تحمّل النقد. إذا كان المجتمع الدولي يفسح المجال للمجتمع المدني البحريني أن يشارك في اجتماعات جنيف وأن يطرح رأيه ويستمع لتقاريره ومداخلاته ويأخذ بها، فإن من الأولى أن تتاح لهذا المجتمع أن يقوم بكل ذلك في الداخل، وضمن أنشطة ومجالات حقوقية جادّة.

قبول الحكومة بالتوصيات الحقوقية أمرٌ إيجابي، وقد تمّ تقديره دوليّاً خلال الإجتماعات، سواء من قبل الدول أو من قبل مفوضية حقوق الإنسان أو من المنظمات الحقوقية الكبرى. بالطبع هناك دائماً من يشكك في الأمر، إمّا من زاوية القدرة على التطبيق، أو من زاوية عدم وجود رغبة رسمية في ذلك. ونعتقد أن القبول يعني ان هناك رغبة رسمية. القبول ليس التفافاً تكتيكياً أو سياسياً. لكن تبقى مشكلة التطبيق، وهذه يتحمل مسؤوليتها أجهزة الدولة المعنيّة، كما يتحمّل ذلك المجتمع المدني البحريني الذي تدعو الى مشاركته آلية المراجعة الدورية الشاملة. لا بدّ من خطّة وآلية وتشكيل لجنة لتطبيق التوصيات، ولا بدّ أن تكون للقيادة العليا دوراً محورياً في ذلك، بحيث يكون التطبيق بزخم حقيقي، وبحيث كلما وقعت عثرة أُمكن حلّها بالسرعة المطلوبة.