نحو فهم أفضل للمشكل الطائفي:

المبادرات المطلوبة لمواجهة تغوّل الطائفية

المشكلة في مملكة البحرين سياسية في أصلها، طائفية في ظاهرها. هي مشكلة سياسية متداخلة مع الطائفية؛

وان الحلول الآنيّة للظاهرة الطائفية هي حلول سياسية بحكم أسباب ظهورها.

د. صباح التميمي

د. صباح التميمي

أستاذة وباحثة جامعية ـ العراق

يمكن تعريف المشكلة الطائفية من ثلاث زوايا مختلفة:

الأولى: اعتبارها خلافاً دينيّاً بحتاً، سببه الوحيد أو الرئيس هو شعور كل طرف بأن مذهبه هو الحق وأن الآخر مخطئ أو منحرف عن الطريق المستقيم، ويترتب على هذه الفرضية شعور كل طرف بالمسؤولية عن هداية الطرف الثاني إلى هذا الحق، حتى لو اقتضى الأمر قسره على سلوك الطريق المستقيم. طبيعة الفعل في هذه الحالة دعوي - هجومي، ويتحمل المسؤولية المباشرة في الغالب رجال دين أو حركيون نشطون في المجال الديني.

الثانية: اعتبارها خلافاً اجتماعياً ناتجاً عن التزاحم بين دائرتي مصالح متمايزتين، ويظهر هذا خصوصاً حين يخترق أحد الطرفين المجال الاجتماعي الخاص بالطرف الثاني، من خلال التبشير أو الاستقطاب السياسي/ الثقافي. وأبرز مصاديق هذا التعريف هو تحول الأفراد الشيعة إلى سنة أو العكس، مما يثير القلق باحتمال تعرّض البيئة الخاصة (أي دائرة النفوذ أو المصالح) للتآكل، وفي أقل الاحتمالات إثارة الشك حول كفاءة هذا الطرف أو شرعية نفوذه الاجتماعي. طبيعة الفعل في هذه الحالة دفاعي - سجالي يستهدف تسوير دائرة النفوذ من خلال المبالغة في إظهار حقانيتها، أو إبراز عناصر ضعف الطرف المنافس، وفي العادة فإن قوى اجتماعية عديدة تشارك في تحمل المسؤولية في هذه الحالة، منها رجال الدين، والزعماء الحركيون وقادة المجتمع، فضلاً عن الدولة.

الثالثة: اعتبارها رد فعل على الظلم أو انعدام العدالة الاجتماعية (بحسب تعريف جون راول الذي يركز على توفر الفرص والمساواة)، ويظهر هذا خصوصاً في البلدان التي تقودها حكومات أوتوقراطية، أو تفتقر إلى الضمانات الدستورية لحقوق الأقليات، أو تطبق حكوماتها نظاماً لا يضمن العدالة في توزيع الموارد والفرص والالتزامات بين مختلف الطبقات أو الأطياف الاجتماعية. طبيعة الفعل في هذه الحالة سياسي أو سيكولوجي، يتخذ الأول شكل التمرد الجمعي، الهادئ أو النشط، على النظام السياسي، في حين يتخذ الثاني شكل الإنكار الفردي والانسحاب من الشأن العام، أو ما يسمى أحياناً بالإغتراب.

الواضح أن جميع التعريفات السابقة صحيحة، لكن أي واحد منها لا يصلح تعريفاً وحيداً، كل من التعريفات الثلاثة يصلح لوصف حالة من حالات التنازع الطائفي أو المذهبي. بعبارة أخرى فإن التنازع الطائفي ليس مشكلة واحدة بطبيعتها وأسبابها، بل هي في الحقيقة ثلاث مشكلات، تتفق جميعاً على التمظهر في ثياب الجدل المذهبي أو الطائفي، ونجد الأثر الحاسم لمحرك المشكلة أو علتها في الغاية التي يسعى إليها كل فريق. لو أخذنا مثلاً الحرب الأهلية اللبنانية التي اتفق على تصويرها على أنها نزاع طائفي، فسوف نجد أن انتهاء الحرب لم يتحقق نتيجة حوار بين أهل الأديان والمذاهب التي شاركت فيها، بل باتفاق على إعادة صياغة النظام السياسي وتوزيع مصادر القوة بين الطوائف المختلفة، ومثل ذلك النزاع الحالي في العراق، فالذين يتناقشون حول حل الأزمة ليسوا رجال الدين، ولا قادة الفكر، بل السياسيون، وهم لا يتطرقون إلى النقاشات الدينية وأدلة كل طرف على حقانيّة مذهبه، بل يتحدث كل منهم حول تصوره للحصّة العادلة لجمهوره في سياسة البلاد ومواردها.

المسار السياسي للمسألة المذهبية

رغم التمايز الواضح بين الحالات المختلفة للنزاع المذهبي/ الطائفي، إلا أن الشائع هو استخدام المذهب والطائفة إطاراً لذلك النزاع. كل مجتمع تنعدم فيه العدالة الاجتماعية، يمثل أرضية للنزاع الداخلي والانشقاق. لكن يجب الحذر من الإفراط في الربط بين السبب والنتيجة، فثمة مجتمعات تفتقر إلى العدالة لكن أعضاءها لا يشعرون بالحاجة إلى التمرد أو الانشقاق. قد لا يكونوا بالضرورة راضين عن وضعهم، لكنهم في الوقت نفسه لا يعتبرون الانشقاق سائغاً أو مفيداً، إما لأن ثقافتهم تبرر هذا الوضع وتعتبره مقبولاً أو قدراً لا مفر منه، أو لأنهم يجدون وسائل لمعالجة المشكلة بغير الانشقاق والتمرد. ولهذا فلابد من القول إن ظهور النزعة الانشقاقية، يحتاج بالإضافة إلى المبرر الأول، أي انعدام العدالة، إلى عوامل أخرى مساعدة، هي:

1- فهم الأفراد أو الجماعة لحالتهم وظرفهم باعتباره ثمرة لبنية النظام الاجتماعي أو السياسي المهيمن، وأنه ليس ظرفاً عارضاً. هذا الفهم هو بعبارة أخرى، تفسير للحالة في الإطار السياسي، يترتب عليه تحولها إلى مبرر لفعل سياسي مضاد للتنظيم الاجتماعي أو السياسي القائم.

2- توافر أرضية ثقافية تتقبل الانشقاق، وتعتبره خياراً مشروعاً في حال انعدام وسائل أخرى أقل كلفة.

3- توافر الأمل بإمكانية معالجة الظرف المعني عن طريق الانشقاق. نشير إلى أن مستوى الأمل يحدد حجم الانشقاق وتعبيراته وأهدافه. انعدام الأمل لا يمنع الانشقاق لكنه يحصره في إطار فعل فردي أميل إلى الانكماش واعتزال الجماعة أو الإغتراب. في المقابل فإن توافر قدر كبير من الأمل يوسع المساحة الاجتماعية للانشقاق، لكنه في الوقت نفسه يحدّ من عنفه ويجعله أميل إلى القبول بأنصاف الحلول. أخيراً فإن وجود نطاق ضيق للأمل، يجعل الانشقاق أكثر عنفاً، لكنه أيضاً يحد من مساحته الإجتماعية الفاعلة، ونشير هنا إلى دور النخبة الاجتماعية في تجسير الفجوة أو تعميقها، فهي تلعب دوراً فعالاً في إقناع الجمهور بمستوى الأمل المتوافر، في تحديد حجمه وقيمة تمثيلاته وتعبيراته.

إذا توافرت العوامل الثلاثة السابقة، فإن التفكير في الانشقاق سوف ينتقل إلى مرحلة الفعل، وهو يبدأ بتصميم الخطاب الذي سيخلق الإطار الاجتماعي ويشكل مبرراً اخلاقياً للانشقاق، وفي هذه المرحلة بالتحديد يتجه الفرد (أو مجموعة الأفراد) إلى التفكير في التصوير المذهبي/ الطائفي بوصفه إطاراً ومبرراً.

يترجح اتخاذ الإطار والخطاب المذهبي/ الطائفي بالنظر إلى عاملين، أولهما يتعلق بداخل الجماعة ويتمثل في قدرة هذا الخطاب على التعبئة والحشد وتوفير المشروعية، والثاني يتعلق بخارجها، وهو قدرته على ترسيم الحدود الجغرافية أو الاجتماعية لموضوع المشكلة، فهو من هذه الناحية يسهم في إقامة دائرة مصالح جديدة، يتحدد على ضوئها الأنصار والأعداء المحتملون. تجدر الإشارة هنا إلى أن كل مطلب اجتماعي، وكل جماعة نشاط، هي دائرة مصالح لها أعداء وأصدقاء محددون ومحتملون.

السؤال: لماذا يصبح المذهب، وليس الحقوق المدنية، إطاراً رئيساً للتعبير عن المطالب؟

في كل مجتمع هناك من يعي حقيقة أن ما يثير وجع الناس هو حرمانهم من العدالة وليس اختلافهم في المذهب، وربما عبر هؤلاء عن رفضهم لاختصار المسألة في الإطار الطائفي أو نسبتها إليه، لكن الأمر لا يتوقف عند قبول هؤلاء أو رفضهم. صياغة المسألة وتحديد إطارها يرجع إلى عوامل عديدة، من بينها: دور عامة الناس الذين يميلون إلى التفسيرات المبسطة والمألوفة، مثل التفسير الطائفي لمسألة العدالة. ومن بينها توجه الطرف الثاني (العدو المفترض) الذي يميل إلى تحديد موضع المشكلة وحصرها في إطار خاص كي يسهل التعامل معه. ومنها فاعلية التراث الثقافي للجماعة في توليف مبررات وخلفية للخطاب، ووسيلة تسوير للجماعة التي ترفع لواءه.

لكن دور عامة الناس هو بيضة القبان في هذه المسألة، فالتوافق الاجتماعي الضمني أو الصريح على مسألة هو الذي يحدد مصيرها. قبول الناس للخطاب الطائفي يخلق بيئة مساعدة أو ربما ثورية توفر المدد البشري والروحي والمادي للخطاب الطائفي. أما إذا رفضه الجمهور فإنه على الأرجح سيتحول إلى حركة أقلية لا تأثير لها.

السؤال إذن: لماذا يميل الناس إلى قبول ودعم الخطاب الطائفي، رغم أن مطالبهم ليست في الغالب مذهبية أو طائفية بالمعنى الدقيق، أي لا تستهدف إقناع الطرف الآخر بحقانية طريقهم أو دفعه للتخلي عن مذهبه الخاص؟ يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى تفسيرين محتملين، أولهما يركز على تفجر الهويات الإثنية في العصر الحديث، في حين يركز الثاني على مشكلات عدم التكيف.

مسألة الهوية: وخلاصة هذا التفسير أن مجموعات متمايزة إثنيًّا اضطرت لسنوات طويلة إلى كبت هويتها، أو خضعت لإدماج قسري في ثقافات أخرى مهيمنة، أو أنها لهذا السبب أو غيره كانت غافلة عن هذه الهوية ودورها في تشكيل رابطتها الاجتماعية وشخصيتها المتميزة. لكن مع زوال الهيمنة - بتفكك الدولة السوفيتية مثلاً - أو بسبب انفجار ثورة المعلومات والاتصال (انتشار التلفزيون الفضائي، الإنترنت، التلفون المحمول) أو بسبب انتشار مفاهيم حقوق الإنسان والحريات الشخصية والمدنية والمشاركة، أو لهذه الأسباب مجتمعة.. اكتشفت تلك المجتمعات ذاتها الخاصة، أو اكتشفت أنها تتعرض للتمييز أو قلّة التقدير، لأن الآخرين لا يعاملون أعضاءها بوصفهم مواطنين متساوين مع البقية في الحقوق والواجبات، بل بوصفهم جزءاً من جماعة مختلفة. من هنا فإن اكتشاف الذات والمطالبة بالمساواة يتخذ في أحد وجوهه صورة التركيز عليها، ومحاولة إبراز الحدود الفاصلة بينها وبين الآخر، وهذا بطبيعة الحال عامل هام في تعيين حدود المشكلة ومبرراتها، كما أنه العامل الأبرز لحشد القوة الداخلية للجماعة.

هذه هي خلاصة الفكرة التي تفهم الصراعات القائمة كتعبير عن انفجار للهوية، وهي تشير ضمنيًّا بإصبع الاتهام إلى الدولة بأنها المذنب في تأخير أو إعاقة الاندماج الوطني وتعميق الهوية الواحدة، وأظن أن كثيراً من الناس سيميلون إلى هذا التفسير لبساطته وإمكانية تطبيقه على العديد من الوقائع، بناء على هذا التفسير فإن أصحابه يركزون على الحاجة للإقرار بالتنوع والتعدد وقبول الآخر كما هو، وبناء النظام السياسي على أساس توافقي أو تعددي.

مسألة التكيف: يعتمد هذا على تفسير اقترحه دانييل ليرنر، الذي يقول بأن أبرز سمات المجتمع الحديث هي قابلية الفرد على التكيّف، وإنشاء تفاهم أو علاقة مصلحة مع الغير، بغض النظر عن وحدة الإنتماء الاجتماعي أو المعرفة المسبقة به. أما في المجتمعات التقليدية فالعلاقات مغلقة، ويقيم الأفراد علاقاتهم مع الأشخاص الذين يجمعهم معهم انتماء اجتماعي، في حين يصعب عليهم إيجاد علاقة تفاعلية مع الأشخاص الجدد من خارج الإطار الإجتماعي الذي ينتمون اليه.

العجز في التكيف مع التغييرات الثقافية والاجتماعية يرجع في جوهره الى انعدام التعدد والتنوع، والميل الشديد إلى التشابه والتوحد في الثقافات التقليدية، وهو ما يتبلور في صورة ذوبان كامل للهوية الفردية وهيمنة تامة للهوية الجمعية، وارتياب من البيئات الأخرى، أو تساهل في اعتبارها أدنى مرتبة عند المقارنة ببيئته الخاصة.

الإطار السياسي للمشكلة: مسألة الأقليات

ثمة علاقة وثيقة بين التوتر المذهبي أو الطائفي وبين مسألة الأقليات، فغالباً ما يثور التوتر في البلدان التي يتنوع مجتمعها مذهبيّاً أو عرقيّاً أو ثقافيّاً. ونقصد بالأقليّة معناها السياسي، أي الشريحة التي تحصل على حقوق أدنى قليلاً أو كثيراً من المستوى المتوسط لبقية المجموعات في البلد نفسه. هناك نحو 20 دولة فقط في العالم تضم سكاناً من قومية ومذهب واحد. إن مسألة الأقليات لم تعد هامشية أو مؤجلة في عالم اليوم. صحيح أن وجود الأقلية ليس مشكلة ولا يولد مشكلات في أكثر أقطار العالم، لكنه على أي حال يمثل احتمالاً يستدعي التدخل المبكر للحيلولة دون ظهور المشكلة أو تفاقمها.

من هذه الزاوية فإن التنازع المذهبي/ الطائفي لا يستمد وقوده من الوصف الديني أو المذهبي للأقلية، بل من كون الجماعة أقلية تعامل على نحو مختلف عن بقية المواطنين، أو بعبارة أخرى لأن أعضاءها لا يعاملون بوصفهم مواطنين اعتياديين بل بوصفهم أعضاء في أقلية مصنفة إجمالاً في موضع أدنى من بقية شرائح المجتمع، هذا التعامل المهين هو العامل الرئيس في تحول وجود الأقلية إلى فرصة للانشقاق أو التنازع .

دور النظام السياسي في إطلاق أو تثبيط التوتر

في الماضي كانت الدولة مكثفة في الحاكم، وكان الحاكم هو رب البيت، فإذا تغيّر تغيّر البيت معه. إن الخضوع والتسليم لشخص الحاكم كان المضمون العام لعلاقة المجتمع مع دولته، لكن هذا الأمر تغيّر اليوم. جوهر التغيُّر هو تحوّل صفة الدولة من حاكم فوق الشعب، إلى حَكَم بين أفراده، كما أصبحت ممثلاً لهم وتستمد سلطتها منهم؛ وترتب على ذلك نزع الصفة المتعالية للدولة، وتحديد سلطتها واعتبارها مسؤولة عن أعمالها وعما يجري إجمالاً في الإقليم السياسي الذي يخضع لسلطانها، وصار من مسؤوليتها ترسيخ الحقوق المدنية والمساوة بين المواطنين، وفرض حاكمية القانون. ولهذا افترض أن الاختلاف المذهبي أو الديني بين أبناء الوطن الواحد لم يعد مشكلة أو مولداً لمشكلة، خاصة مع توفير آليات قانونية محددة وموثوقة لمعالجة التمييز والعدوان فور حدوثه.

بيد أن العدد الأكبر من الدول في العالم الإسلامي لم تتغير المفاهيم فيها، وترى ذاتها مستقلة عن المجتمع، وتتمتع بسلطات مطلقة، بحيث بقي النظام السياسي مشوباً بالكثير من الاختلالات والعيوب فيما يخص العلاقة الداخلية بين الطبقات والشرائح الاجتماعية، وكذلك العلاقة بين المجتمع والدولة، بالرغم من فورة الوعي لدى الأفراد، وانكشاف العيوب البنيوية في النظام السياسي.

اتخذ التعبير عن الانشقاق والإنكار على الدولة إطاراً مذهبيًّا/ طائفيًّا، لأن الخطاب الطائفي أقدر على استثمار التراث الثقافي للجماعة في توليف مبررات ووسيلة تسوير للجماعة التي تقوده، وهو الأقدر على جلب قبول الجمهور، وبالتالي خلق بيئة مساعدة أو ربما ثورية توفر المدد البشري والروحي والمادي للدعوة السياسية. في الحقيقة فإن عناصر القوة هذه متوافرة في الطرفين، فالدولة أيضاً استعملته لتحديد موضع المشكلة ولتعزيز البيئة الاجتماعية الموالية لها من خلال عرض المشكلة كما لو كانت تمرداً من تلك الجماعة على هذه الجماعة. بكلمة أخرى فإن الذي ولَّد المشكلة ليس التمايز الطائفي بل التمييز الطائفي.

مقترحات لمعالجة المسألة الطائفية

يمكن تصور العلاج ضمن واحد من ثلاثة مسارات، وربما كلها:

المسار القانوني – السياسي: الحل الحاسم للنزاع المذهبي، هو ذاته الحل الذي جُرب في كثير من أقطار العالم علاجاً للنزاعات الأهلية، وهو على وجه التحديد توفير قنوات المعالجة السياسية للمشكلات من خلال التمثيل العادل للأقليات والجماعات الإثنية في النظام السياسي، وتوفير القنوات السياسية والدستورية لمعالجة الشكاوى والمشكلات.

يختلف الانشقاق بين ضعف وشدة بحسب توافر وسائل تثبيط المنازعة، سواء من جانب الدولة أو من جانب المجتمع. هذه الوسائل قد تكون مصادر مالية وقد تكون مؤسسات دستورية أو سياسية، يمكن للمال أن يلعب دوراً فعَّالاً في تبريد التوترات الناشئة عن إحباطات سياسية، كما أن توافر مؤسسات سياسية مثل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني يمكن أن يساهم بفعالية في عقلنة المطالب، وتحويل اتجاهات التوتر من الإطارات المذهبية والإثنية إلى الإطارات المدنية القانونية، وبالتالي الفصل بين موضوعات التوتر (وهي معيشية أو سياسية غالباً) وبين مصادر التثوير الطائفي أو الإثني (أي التراث الخاص بالجماعة). يمكن للمؤسسات الدستورية مثل البرلمان والقضاء أن تؤدي أيضاً هذا الدور وتخدم الغاية نفسها.

وتستطيع المؤسسات السياسية والدستورية القيام بهذا الدور إذا كان النظام السياسي/ الاجتماعي تعددياً، يتقبل وجود مصالح متباينة، وتوجهات مختلفة، ويتعامل معها إيجابيّاً. في ظل نظام كهذا فإن منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية وكذلك مؤسسات الدولة الدستورية كالقضاء والبرلمان، يمكن أن تقوم بدور مؤثر في معالجة التوترات ذات الوجه الإثني، بتحويلها إلى توترات مطلبية مدنية.

ومن المهم أيضاً مساعدة الجماعات المختلفة على التمثل بصورة منصفة وفعَّالة في النظام السياسي، حتى يشعر الجميع بأن الدولة دولتهم، وليس دولة الآخرين المهيمنة عليهم.

في الإطار القانوني، يقترح التالي:

- سن قانون يجرّم الممارسات الطائفية، وينظم الممارسات الفئوية بما يضمن حق المعتقد دون الإساءة للشركاء الآخرين في المجتمع، على ان يطبق القانون بحزم، ودون أن يتم خرقه من المتنفذين وأصحاب الأجندات.

- إنشاء هيئات خاصة لرصد التوجهات الطائفية، تكون بمثابة جرس انذار لبزوغ مشكلة، ومن ثم معالجتها في المهد.

المسار الاقتصادي: في معظم الحالات التي نعرفها فإن الإحباطات السياسية هي انعكاس لإحباطات معيشية واقتصادية، سببها الرئيس عدم التوازن في توزيع الموارد الوطنية أو تباطؤ الجهود التنموية للدولة. إن تحقيق قدر معقول من التوزيع العادل للموارد، والتنمية المتوازنة، سوف يعزز الأمل في حياة أفضل من خلال النظام الوطني وليس بالانشقاق عليه، هذا الأمل هو البديل الطبيعي عن التوجهات الانشقاقية، سواء كانت خلفيتها مذهبية أو غيرها.

يجب الإشارة إلى أن المسالة الجوهرية في كلا المسارين السياسي والاقتصادي هي توفير أكبر قدر ممكن من الفرص والخيارات أمام الأفراد. فوجود فرص كافية أو عادلة يدفع بالأفراد الأكثر طموحاً إلى ابتكار وسائل لمعالجة مشكلاتهم من خلال أدوات النظام القائم وضمن قنواته، بدل الانشقاق عليه، الأمر الذي يقلل من الحاجة إلى استنهاض الخصائص الذاتية للجماعة واستعمالها وقوداً في الانشقاق.

المسار الثقافي: يعالج هذا المسار بصورة محددة (ذهنية الانفصال والانقطاع) التي يتضح الآن أنها سمة شخصية عامة في مثل مجتمعاتنا. هوية الفرد في هذه المجتمعات لازالت غير محددة، أو أنها تنطوي على تكوين غير منسجم بسبب التربية الممزقة والمتعارضة. حتى التربية المدرسية تنطوي على توجيهات متناقضة. ثمة كثير من الكلام في الكتب المدرسية وفي وسائل الإعلام حول الوطن، لكن الصورة العامة التي تقدمها هذه المصادر هي صورة الوطن الرومنسي الذي يستوجب الولاء والتضحية، وليست صورة الوطن الواقعي الذي هو شراكة مصالح. وبسبب التفاوت القائم بين ما تحصل عليه الطبقات القريبة من قمة السلطة والأكثرية البعيدة عنها، فإن التضحية المشار إليها مطلوبة فقط من الطبقات الدنيا، أما الأعلون الذين يجنون اللباب فلا يتوقع منهم التضحية ولا هم مستعدون لها.

يجب ترسيخ فكرة أن الفرد هو مواطن وشريك لبقية المواطنين، وأن التباين في القيم والأخلاقيات والمتبنيات العقدية وغيرها هي مجرد إضافة، وليست قيمة أصلية، تتقرر على ضوئها العلاقة بين المواطنين. الوطن ليس مجرد تصوير جمالي أو أمنية، بل هو أولاً وقبل كل شيء شراكة قائمة ومفتوحة يتساوى فيها الجميع، في مغانمها وفي مغارمها.

يقودنا هذا إلى مسألة لا تقل أهمية، ألا وهي تمحور جانب كبير من خطابنا الديني حول ما يمكن وصفه بتراث الفرقة، الذي هو اليوم المادة الرئيسة وأحياناً الوحيدة للتوجيه الديني. معظم الذين يتحدثون في الدين، سواء على المنابر أو في أجهزة الإعلام، يتخذون من ذلك التراث محوراً لحديثهم، وهو أمر يؤدي بالضرورة إلى تكريس ذهنية الانقطاع التي أشرنا إليها. وبسبب سيادة هذا المنهج فقد ساد ما يمكن وصفه بذهنية عامة تنكر أي محاولة لردم الفجوات بين اتباع المذاهب والإثنيات المختلفة، وشكَّلت هذه الذهنية حاجزاَ شديداَ يمنع القادة الدينيين من مراجعة تراث الفرقة أو نقده أو تجاوزه.

لكن لا يمكن الاقتصار على الجانب الثقافي في معالجة التأزم الطائفي، مادامت مصادر التأزم السياسية والاقتصادية قائمة، فإن محاولات العلاج الثقافي سوف تلقى على الأرجح آذاناً صماء. في ظني أن العلاج الثقافي سيكون فعّالاً إذا اكتشف الجميع مصلحة مادية ملموسة وقريبة المنال في الشراكة الوطنية، وهذا يعيدنا إلى المسارين السياسي والاقتصادي. لا يسع الموجهين الدينيين فعل شيء ذي شأن ما لم تبدأ تأثيرات المسارين السياسي والاقتصادي في الظهور، أعني في معالجة مصادر المشكلات ولا سيما الإحساس بالظلم. مثل هذا التطور سوف يمتص خزان الزيت الذي يُبقي نار الانشقاق مشتعلة. لا يمكن فصل المطالب المدنية الحياتية عن مصادر الوقود الطائفي إلا إذا اتجه الوضع الاجتماعي العام إلى الارتخاء، وهذا بدوره لا يتحقق الا إذا شعر عامة الناس بوجود أمل قوي في إصلاح الأمور، سواء على الجانب الاقتصادي أو السياسي. إذا تحقق الارتخاء السياسي والاجتماعي فسوف يكون الناس أكثر استعداداً وقابلية لنقد تراثهم وتصوراتهم عن ذاتهم وعن الغير.