كيف نفهم بواعث قلق منظمات حقوق الإنسان؟

إتسمت علاقات البحرين بالمنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان بالكثير من التوتر في الأشهر القليلة الماضية، وذلك يعود بصورة رئيسية إلى القيود والإجراءات التى عمدت السلطات الرسمية إلى فرضها فيما يتصل بزيارات مندوبي تلك المنظمات إلى البحرين وممارستهم لمهامهم الحقوقية فيها، وذلك من منطلق مفهوم يتغذى من قناعة بأن هذه المنظمات لا تضمر للبحرين غير الشر، وأن بياناتها وبلاغاتها الصحفية وتقاريرها تنضح بالكثير من التحامل غير المبرر بشأن أوضاع حقوق الإنسان فيها.

صحيح ان ملف حقوق الإنسان في البحرين كان من أكثر الملفات التى تسلطت عليها الأضواء منذ إندلاع الأزمة في العام الماضي 2011، ونالته سهام الإنتقادات الحادة من كل حدب وصوب، سواء كان ذلك من قبل حكومات ومؤسسات رسمية، أو من قبل منظمات دولية، وأخرى غير حكومية. ثم جاء قرار ملك البحرين الشجاع بتشكيل لجنة بسيونى الدولية لتقصي الحقائق، وتبعه إعلانه الشجاع أيضاً بقبول نتائجها والإلتزام بتنفيذ توصياتها ليحظى بقدر كبير من الإهتمام وبإشادة كبرى من كافة الأطراف الدولية، بشكل أسهم في نقل البحرين من خانة السلبية إلى رحاب الإيجابية.

غير أن هذا التطور كان لا بد وأن تكون له تبعاته غير المحسوبة بما فيه الكفاية، ومن أهمها أنه جعل الأنظار تتركز مرة اخرى تجاه البحرين، وبعدسة مكبرة، لتقييم مدى جديتها في الإلتزام بما قطعته على نفسها بتنفيذ كافة البنود الواردة في توصيات لجنة بسيوني.

التدفق الهائل للمنظمات الحقوقية الدولية على بحرين ما بعد بسيونى، وتكاثر بلاغاتها وتقاريرها بما تحويه من إنتقادات، أخذ السلطات البحرينية على حين غرّة، وجعلها تلجأ لتلك الإجراءات للحد مما تراه تجاوزاً من قبل تلك المنظمات.. التي تفاجأت هي الأخرى وتوقعت أن تشرع البحرين أبوابها لممثليها إيذاناً بعهد جديد من الإنفتاح والشفافية بعد تبنّي نتائج وتوصيات تقرير بسيونى. والذي حدث من وجهة نظرها أنها أصبحت أكثر توجسّاً من الزائرين والمتابعين. والحال أن هذه المنظمات تجد نفسها مجبرة على إستقاء المعلومة من مصادر أخرى قد لا تخلو من التسييس، وذلك أمام عجزها عن الحصول على الخبر من مظانّه.

الأمر الذي لا يمكن تجاهله في عالم اليوم هو أن قضية حقوق الإنسان أصبحت تشغل مساحة كبيرة من إهتمامات السياسة الدولية، ولذلك تضاعف الحيّز الذي تحتله المنظمات العاملة في مجاله من حيث التأثير على توجهات الرأى العام، ومراكز صنع القرار في عواصم العالم، والبرلمانات، وأروقة المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة.

وتتمتع هذه المنظمات، خاصة الكبرى منها، كالعفو الدولية (أمنستي) وهيومان رايتس واتش، بقدر كبير من المصداقية لدى مراكز النفوذ في الساحة الدولية، لما تتميز به من حرفية ومهنية عالية، إلى الحد الذي أصبحت فيه تقاريرها عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم مرجعاً هاماً تستنير به الحكومات والبرلمانات الغربية، وتقرر على ضوئها كيفية التعامل مع قضايا حقوق الإنسان في شتى بقاع العالم.

ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير إلى أن التقارير السنوية والدورية لوزارة الخارجية البريطانية، ولمجلس العموم البريطاني، تحتشد عادة في الكثير من فقراتها بمقتطفات منتقاة من تقارير المنظمات الدولية. هذه المكانة حتّمت على الدول جميعاً سلوك طريق التعاون مع تلك المنظمات، لا المجابهة، وتزويدها بالمعلومات وما تراه من حقائق تساعد على تشكيل رؤية أفضل، وتفهّم أدقّ للظروف المحيطة بأوضاع حقوق الإنسان موضع التقصّي.

إن انتقادات المنظمات الحقوقية لأوضاع حقوق الإنسان في البحرين إنما تعبر عن قلق تجاه جوانب أو مسائل محددة بعينها، تتطلّب تركيز الجهود من أجل حلّها، وإعطاءها الأولوية في سياسة الحكومة، ويكون ذلك بالتعاون ـ لا المواجهة والإهمال ـ مع المنظمات الحقوقية الدولية بما فيها مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.

من واقع المتابعة اللصيقة للشأن البحريني، يمكن القول بأن مبعث القلق لدى الجهات الدولية يعود إلى عدم تلمسها أو إطلاعها على وجود جهد بحريني جاد تجاه معالجة القضايا المثارة. وفي الطرف الآخر هناك قلّة اكتراث، وعدم متابعة ما يصدر من تقارير حقوقية دولية، أو هناك سوء تقدير لقيمة ما يصدر، وقد يعود السبب في كل هذا الى سيادة توجه عام لا يرى فيما يصدر عن تلك الجهات المنتقدة غير تحامل غير مبرر على البحرين، فكانت النتيجة أن فرضت السلطات المعنية قيوداً على التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية وعلى دخول وفودها البحرين لممارسة نشاطها في مجال تخصصها.

فيما يلي القضايا المثيرة في ملف البحرين لحقوق الإنسان، والتي تشكل بواعث قلق الجهات الدولية المذكورة، وهي بواعث تستدعي من الجهات الرسمية البحرينية سعياً لتوضيح رؤيتها وحلولها وما تم إنجازه بشأنها ببيانات محدّدة ومفصّلة، مسنودة بالأدلة القانونية القاطعة المتسقة مع المعايير الدولية؛ إضافة الى الوثائق المتعلقة بالقضايا:

* المحاكمات المتعلّقة بـ 21 شخصاً من المحتجزين بتهمة تدبير انقلاب؛ والذين تعتبرهم المنظمات الدولية سجناء رأي، نظراً لقلّة الأدلّة التي كشف عنها بما يثبت قيامهم بأفعال جنائية.

* ملف الأطباء الذي لم ينته بعد، رغم تبرئة نصفهم مؤخراً.

* موضوع مساءلة ومحاسبة المسئولين عن ممارسة التعذيب وسوء المعاملة للمحتجزين، وطبيعة الإجراءات القانونية والإدارية والمؤسساتية المتبعة فيما يتصل بمسألة (عدم الإفلات من العقاب). وفي هذا الصدد من المهم أن نشير إلى وجود إنطباع عام لدى الأوساط الخارجية بأن الإنتهاكات لا زالت مستمرة خاصة أثناء المواجهات مع المتظاهرين. تجدر الإشارة هنا، الى أن النيابة العامة وجهت تهماً لـ 15 من رجال الأمن على خلفية ممارستهم للتعذيب، وهناك تحقيقات جارية في قضايا أخرى متصلة بذات الموضوع.

* القيود التي يتعرض لها بعض نشطاء حقوق الإنسان، حيث تعتقد المنظمات الحقوقية الدولية بأن هناك استهدافاً لهم، وأن الحكومة لم تقدّم ـ حتى الآن ـ أدلّة جنائية تجرّمهم.

* مسألة تعويض ضحايا الأحداث. وقد تقدمت حكومة البحرين بخطوة ملموسة وواضحة حين أعلنت في 26/6/2012 أنها ستدفع تعويضات بقيمة 2.6 مليون دولار لأسر 17 قتيلاً سقطوا في اضطرابات العام الماضي.

* عدم وجود سياسات تستوعب بصورة أوسع جميع مكونات المجتمع البحريني المتعدد والمتنوّع في المؤسسات الرسمية.

* البطء في تشييد المؤسسات الدينية التي هدّمت العام الماضي.

* عدم التقدّم بصورة ملموسة في مجال (المصالحة الوطنية).

* مسألة تأمين استقلالية وحيادية وتوازن الأجهزة الإعلامية الرسمية وضمان إستيعابها للجميع دون إقصاء أو استعداء.

هذه هي القضايا مثار الجدل والقلق، والتي يدور حولها معظم النقاش الحقوقي بين الجهات الرسمية البحرينية والمنظمات الحقوقية الدولية. وإذا كان لا بدّ من التعاطي مع تلك المنظمات، فإن بواعث القلق هذه ستبقى تكدّر العلاقة بين الطرفين، الى حين التوصّل الى حلول بشأنها، ومعالجتها بشكل صحيح ومقنع.

لا يجب صرف الكثير من الجهود على قضايا هامشية، فهذه القضايا هي الجوهرية، وبالتالي يجب أن تتوجه الجهود نحو حلّها محليّاً وفي الإطار الحقوقي الدولي.