الحاجة لمبادرات سياسية لمواجهة تغوّل الطائفية

جوهر المشكلة في البحرين سياسي؛ لا أظن أن أحداً يختلف على هذا الأمر.

وجذر الصراع الطائفي المتفاقم بين المجتمعين السنّي والشيعي في هذا الظرف الحسّاس، يعود أيضاً الى وجود أزمة سياسية.

لا تعود المشكلة اليوم الى ما عهدناه من خلاف مذهبي فقهي أو عقدي، فما يؤجج الوضع والإنقسام الإجتماعي سببه الخلافات السياسية وتضارب مصالح القوى السياسية التي تمثل الطائفتين الكريمتين.

كان يمكن أن يُحصر الخلاف بين النخب السياسية، دون أن يصل الى الشارع، فيؤثر على علاقاته وتلاحم فئاته، باعتبار أن الصراع الطائفي في بعده الإجتماعي خطّ أحمر، لخطره المحدق والعميق على مستقبل البحرين دولة وشعباً.

لكن القوى السياسية البحرينية كانت تنقصها الحكمة فانفعلت بأجواء الصراع السياسي، وأنزلته الى المجتمع على شكل صراع طائفي كريه استخدمت فيه الشعارات والإتهامات الهابطة.

ليست القضية اليوم في البحرين خلاف بين علماء شيعة وعلماء سنّة على قضية مذهبية معيّنة؛ ولا هي ناتجة من خلاف جدلي حول موضوع عقدي مضى عليه أربعة عشر قرناً من الزمان.

الخلاف السياسي وما يتبعه من صراع وانقسام اجتماعي حادّ، تسبّب فيه سياسيون، سواء لبسوا العمامة والجبّة أو الثوب والعقال أو البنطال والكرافتة!

باختلاف هؤلاء وانقسامهم، انقسم المجتمع، وشاعت لغة الكراهية، كونهم استخدموا الخطاب الطائفي في صراعهم السياسي مع نظرائهم، إمّا تحصيلاً للمواقع، أو تحصيناً لها.

لا يستطيع اليوم علماء الدين من الطائفتين الكريمتين وعبر الدعوة الى الإئتلاف والوحدة والتلاقي والتآخي، إلا جني الشيء القليل من الثمرة التي يبتغونها، كون من يحمل شعلة الصدام والتوتر هم رجال السياسة بالذات، الذين بيدهم صبّ الزيت على النار، أو التقليل من الأضرار.

التوافق السياسي بين النخب، ووضع خطوط حمراء في استخدام خطاب الكراهية الطائفي، هو الذي يطفئ ماكينات الطائفية الإعلامية والتحريضية، أو يهدئها ويقلّصها الى أبعد الحدود.

ولكن كيف لنا بذلك، والتوافق السياسي في رحم الغيب، حتى الآن؟. كذلك التباعد في وجهات النظر، وفي تضارب المصالح لازال قائماً؟

بقدر ما هي دعوة الملك بمناسبة عيد الأضحى موجهة الى كل أفراد المجتمع، وهي التي طالبهم فيها بـ (الحرص على الأخوة التي تجمع بينهم، وإلى التكاتف والتراحم، فالعيد فرصة للتسامح والتآخي والتحاب، امتثالاً لتعاليم العقيدة الإسلامية السمحة، وتجسيداً لمشاعر المواطنة وما يربط بين أبناء الوطن الواحد من وشائج وروابط).. فإنها موجّهة أيضاً ـ وفي المقام الأساس ـ الى النخب السياسية، التي تعتبر نفسها ممثلاً لمصالح الفئات المختلفة. ونقصد بالنخب جميع القوى سواء كانت داخل او خارج أجهزة الدولة.

النخب السياسية لا بدّ وأن تدرك بأن التحشيد الطائفي، والتهويل من خطر الآخر، ووضع نفسها في موضع الدفاع عن مصلحة الطائفة قبل الوطن، يؤسس لفتنة عمياء، ويضعف الدولة بحيث يجعلها عاجزة عن أداء أبسط واجباتها، وهي توفير الأمن وحماية المواطن، فيكون الجميع خاسراً وضحية. هذه النخب تتحمل المسؤولية قبل غيرها من أفراد عاديين يجري استخدامهم في الصراعات السياسية على شكل صراع طائفي داخل المجتمع. وهي ـ أي النخب ـ التي باختلافها وتنافرها وربما أنانيّتها من يمنع التوصل الى الحلول الوسطى، ويتوسل بروابط الطائفة لتحقيق أهدافها السياسية، بغض النظر عما اذا كانت مشروعة أو غير مشروعة.

هدير المدافع الطائفية لازال يسمع بقوة في البحرين، والإنفصال النفسي والمصلحي يتسع بين المواطنين على صعيد الإقتصاد والأعمال والسكن والزواج والعلاقات الإجتماعية الأخرى.

شعب البحرين لا يستطيع أن يتحمل المزيد من هذا الإنقسام والصدام الطائفي. والوطن لا يمكن أن يتقسّم ضمن خطوط تماس طائفية. ومؤسسات الدولة لا تستطيع ان تعمل بفاعلية وكلّ طرف يريد أن يجرّها الى خندقه الطائفي ومصلحة جماعته.

الترجمة الحقيقية لما يدعو اليه الملك من تسامح وتآخي وتحاب وتجسيد مشاعر المواطنة، تتطلب تلاقياً على الصعيد الشعبي بين الشيعة والسنة؛ وتلاقياً على الصعيد السياسي بين النخب السياسية الشيعية والسنيّة خاصة بين الوفاق وتجمع الوحدة الوطنية؛ وكذلك تلاقياً على الصعيد الديني بين العلماء من الطائفتين؛ إضافة الى تفاهم بين السلطة والمعارضة في إطار وطني توافقي يؤسس لحياة سياسية جديدة، كيما ينهض المجتمع من أوحال الطائفية التي تكاد تقضي على كل شيء جميل في البحرين.

البحرين بحاجة الى الكثير من المبادرات على الصعد كافة. حتى الآن فإن المبادرات قليلة. هي في أكثرها جاءت من الحكومة. لم نرَ اية مبادرة سياسية لا من الوفاق ولا من تجمع الوحدة الوطنية. كما لم نرَ مبادرة للتخفيف من الأزمة الطائفية على الصعيد الشعبي لا من رجال الدين أو منظمات المجتمع المدني أو من المثقفين أو الحقوقيين ولا من غيرهم. بدلاً من انتظار مبادرات من الحكومة سياسية أو غيرها؛ وبدلاً من الانخراط في الجدل السياسي على صفحات الجرائد، يفترض أن نقرأ مقترحات وتوصيات وتطوير للمبادرات واحتضان للأفكار البنّاءة والتأسيس عليها لعمل ما. هذه سمة المجتمع الحيّ الباحث عن الحلول، بل والمبدع لها.