العدالة بالعفو، والمستقبل قبل الماضي

كيف نضمن مستقبلاً حقوقياً أفضل؟

كما حدث في بلدان عديدة، جرت فيها تحولات سياسية عميقة، وانتقلت الى منطقة سياسية وسطى تم توصيفها بأنها (تحول نحو الديمقراطية).. كان من الطبيعي أن تواجه الحكومة والمجتمع في البحرين أسئلة تتعلق بتركة الماضي، بهدف تجاوزها وعدم تكرارها. ولأن المناخ السياسي عامة أثناء التحول الديمقراطي يتيح طرح الأسئلة، وتأسيس منظمات أو جمعيات تعنى بمعالجة تلك التركة الثقيلة، فإن الدول عامة لم تنجح إلا جزئياً في حلحلة بعض القضايا المتعلقة بهذا الملف الشائك.

هناك ثلاث قضايا كبرى مرتبطة بهذا الموضوع:

الأولى ـ كيف يمكن معالجة إرث الماضي، دون الإستغراق فيه، ودون أن يتحول الى عقبة أمام بناء المستقبل؟ بمعنى آخر: كيف يمكن ضمان حقيقة أن تكون معالجة ملف الماضي معالجة صحيحة، دون أن تسبب نكسة سياسية أو اجتماعية في بلدان تتحول نحو الديمقراطية، بحيث لا تكون (المحاسبة) على حساب (المصالحة)، وفي نفس الوقت لا يكون (العفو عما مضى) على حساب (العدالة)؟ من هنا تم طرح مفهوم (العدالة الإنتقالية)، والتي تعني في أحد أوجهها: الإقرار بها، دون تطبيقها بأثر رجعي، إن كان ذلك سيسبب التوتر ويعيد الأمور الى سالف وضعها من الإنفلات السياسي والعودة الى الديكتاتورية. هذا الموضوع المتعلق بالعدالة يختص بالذات بالكشف عن حقيقة ما جرى قبل التحول الديمقراطي من تجاوزات تتعلق بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب والإخفاء القسري والإعدام خارج نطاق القضاء.

الثانية ـ وتتعلق بتعويض الضحايا وذويهم مادياً ومعنوياً ومساعدتهم على إعادة بناء حياتهم. بحيث يستطيع الضحايا استعادة ممتلكاتهم، والعودة الى وظائفهم، والتعويض عما تعرضوا له بدنياً وعقلياً، وعلاجهم وتحمل نفقاتهم عامة.

الثالثة ـ وتتعلق بسؤال: كيف يمكن ضمان عدم تكرار الإنتهاكات السابقة، وما هي الخطوات الواجب اتخاذها في هذا السبيل. ويأتي في هذا السياق: تعزيز استقلال القضاء؛ وتدريب قوى الأمن على معايير وثقافة حقوق الإنسان؛ ووضع القوانين التي لا يمكن النفاذ اليها من قبل المتجاوزين والتي أدت في الماضي الى وقوع تلك الإنتهاكات؛ وخلق المناخ الإجتماعي والسياسي والإعلامي الملائم الذي يكشف ولا يتسامح مع أية انتهاكات جديدة.

لهذه القضايا الثلاث، طرحت وفي نحو 35 بلداً مسألة تشكيل لجان وطنية اتخذت في معظمها مسمى (الحقيقة والمصالحة) أو ما يرادفها مثل: (الانصاف والمصالحة) أو (العدالة والمصالحة) وكأن المطلوب هو عدالة وكشف عن حقيقة تستهدف المصالحة. بيد أن هذه اللجان، وحسب منظمة العفو الدولية، لم تنجح إلا بشكل جزئي، وذلك لأسباب مختلفة من بينها: الافتقار إلى الإرادة السياسية؛ اتخاذ قرارات سياسية بإصدار عفو يحمي مرتكبي تلك الإنتهاكات؛ انهيار النظام القانوني على المستوى الوطني؛ وعدم وجود ما يكفي من القوانين على المستوى الوطني لتجريم تلك الأفعال؛ وكذلك لوجود عقبات قانونية أخرى تعوق العدالة.

على المستوى البحريني، ولأن لكل دولة خصوصياتها، فإن ملف (ضحايا التعذيب) قد طرح بمجرد أن بدأ التحول السياسي عام 2001، وهنا بعض الملاحظات التي تجعل الموضوع ملتبساً ومشكلاً في آن واحد:

أولاً ـ إن التحول الديمقراطي جاء من (أعلى) أي بإرادة سياسية في المقام الأول، ما يفصح عن إرادة في الإقلاع عن نهج الماضي، متزامناً مع حقيقة توسعة المشاركة الشعبية، وإصلاح القضاء، والمصادقة على المواثيق الحقوقية الدولية، وتوسعة هامش حرية التعبير، وتأسيس منظمات المجتمع المدني، وغير ذلك.

ثانياً ـ في معظم الدول التي تشكلت فيها لجان لكشف الحقيقة والمصالحة وغيرها من اللجان، عانت من انشقاقات مجتمعية كبيرة، وبعضها حروب أهلية، كما شهدت حروب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإعدام خارج نطاق القضاء والإختفاء القسري وغيرها. لذا كانت بحاجة الى تلك اللجان لتضميد الجراح. وفي البحرين فإن الإنتهاكات الماضية لم تصل الى هذا الحدّ، وكل المطروح له علاقة بالتعذيب في السجون، يجري الإعتراف الرسمي ضمنياً بوقوعه دون التصريح به. لذا، لم تظهر الحاجة في الأساس الى لجنة مشابهة.

ثالثاً ـ إن السياسات الحكومية عامة، والتي جاءت مباشرة بعد إعلان الإصلاحات تضمنت إجراءات تصحيحية سريعة وانقلابية على ما جرى في الماضي، وبينها: تبييض السجون من السجناء السياسيين؛ وإعادة المنفيين حيث أرسل الملك طائرة خاصة لإعادتهم؛ وإعادة المفصولين الى وظائفهم وتعويضهم عن الفترة الماضية، وغيرها من الإجراءات.

رابعاً ـ ما طرح في البحرين من قبل البعض هو: تعويض ضحايا التعذيب، ومحاسبة المسؤولين عنه. حاولت الحكومة معالجة الشقّ الأول عبر إيجاد مرجعية في ديوان المظالم أولاً، ووزارة التنمية الإجتماعية ثانياً لكي تحل مشاكل المتضررين. لكن الخطوة لم تنجح إلا جزئياً، والسبب يعود بدرجة أساس الى أن من طرح الموضوع رفض حلّه منفصلاً عن المحاسبة، وفي الغالب اعتبر موضوع المحاسبة أمراً سياسياً لا علاقة له بـ (المصالحة) ولا بمعرفة (الحقيقة). ذلك أن للحقيقة وجهان: وجه يشير الى انتهاكات حكومية بحق المعتقلين (أي التعذيب) ووجه آخر يشير الى انتهاكات قامت بها المعارضة أو المنتسبين اليها أدّت الى تضرر العشرات من المدنيين، وبعضهم فقد حياته، وآخرون فقدوا ممتلكاتهم حرقاً. وكما في بلدان عديدة، تبيّن أن (المحاسبة) ستؤدي الى (محاسبات) وبدل أن توفر المناخ الإيجابي الذي يساعد على الإنفكاك من التراث السياسي الماضي والتطلع نحو المستقبل، فإنه قد يؤدي الى عكس ذلك: أي الى الإستغراق في التاريخ، وتسييس موضوع الإنتهاكات القديمة من قبل الطرفين (السلطة وبعض المعارضين) ليخدم المصالح الآنيّة لكل طرف، والذي قد يؤدي الى الإنقلاب على عملية التحول الديمقراطي وأجواء التسامح برمتها.

الخلاصة:

** يلعب العفو على المستويين الرسمي والشخصي دوراً أساسياً في تجاوز إرث الماضي، لا بعنوان إنكار العدالة، وإنما بإسقاط اللجوء اليها، خاصة اذا كانت التجاوزات قد تسبب مشاكل أكبر مما تحل، أو أنها قد تؤدي الى محاكمات أطراف عديدة وليس فقط الأجهزة الحكومية. من هنا قيل بأن لجان الحقيقة تستبطن إسقاطاً لخيار العدالة (المحاكمة). فكشف الحقيقة من خلال المراجعة النقدية الذاتية لطرفي السلطة والمعارضة مرحلة وسطية تكفي للإعتبار مما جرى في الماضي دون أن تسبب جراحات جديدة، وهي تكفي للتعويض المعنوي للضحايا، كما أنها تساهم في منع تكرار اختراقات حقوق الإنسان في المستقبل.

** ما بعد مرحلة الإصلاحات فترة لا يجب التسامح فيها تجاه أية انتهاكات لحقوق الإنسان. والقضية لها طرفان دائماً (الحكومة وبعض أطراف المعارضة المتشددة)، وإن كانت العين مركزة على أجهزة الدولة الأمنية التي أعلنت أكثر من مرة عن تحويل بعض منسوبيها الى المحاكمة والمحاسبة والمساءلة بسبب تجاوزاتهم. إذا كانت هناك مبررات في عدم نبش الماضي وإثارة الجراح، فإن الغرض هو أن تكون المسيرة أكثر صحية، وهي لن تكون كذلك، إن جرى طيّ التجاوزات التي تقع حالياً ولم يجر التوقف عندها. إن هذا يكرس ظاهرة الإفلات من العقاب، ويضعف مؤسسات الدولة، ويبقي التحول الديمقراطي صورة بلا معنى أو جوهر.

هذا يستدعي وضع تشريعات واضحة تجرم التعذيب، كما تجرم التستر عليه، وإذا ما وجدت التشريعات المناسبة فيجب تطبيقها. ويفترض أن تنشأ مؤسسات على المستوى الوطني ترسخ المساءلة القانونية ضد المتجاوزين؛ وأن يمنح القضاء المحلي صلاحيات التحقيق في جرائم التعذيب ومحاكمة المسؤولين عنها أينما وقعت.

** هناك من يريد استغلال ملف ضحايا التعذيب في غير صالح الضحايا أنفسهم، وإنما لتحقيق أجندة سياسية، ويفترض إبعاد الملف بشكل كامل عن الأجندات السياسية التي لا تستهدف الإصلاح والعدالة بقدر ما تستهدف التشهير السياسي، والإنحباس في الماضي، بحيث لا يمكن للدولة والمجتمع التقدم بخطوات حقيقية باتجاه المستقبل.

أمام الجمعيات السياسية والمجتمع المدني فرصة العمل من أجل ترشيد مسيرة الحكم ومحاسبته ومنع تغوّل الأجهزة الأمنية، وذلك من خلال الأطر الرقابية والقضائية والتشريعية. هناك فرصة لتشريع المزيد من القوانين المحلية التي تجعل من العودة الى الماضي وأخطائه أمراً مستحيل الوقوع، وهناك إمكانية للبناء على ما توفر من إصلاحات وتعزيزها وتوسيع هامش حرية المجتمع ومشاركته في صناعة مستقبله.