من تجربة المجتمع المدني في البحرين

حسن موسى الشفيعي

المجتمع المدني القوي في أي دولة، ليس فقط مفيداً في صناعة التغيير الإيجابي؛ وإنما أيضاً ـ وهو الأهم ـ أن قوة المجتمع المدني قادرة على تحقيق أمرين هامّين:

1/ حماية التغيير الديمقراطي، في حال حدوثه، سواء كان التغيير شاملاً أو تدرّجياً.. حمايته من عناصر التطرف والإرهاب، وحماية مشروع الدولة، والمحافظة على القيم الديمقراطية.

2/ خنق البدائل المتطرفة التي قد تنشأ، ومحاصرتها شعبياً.

هذا ما يمكن أن يعلمنا إيّاه، على سبيل المثال، المجتمع المدني القوي والناضج في تونس. فبالرغم من قوة التيار السلفي ـ حسبما ظهر بعد الثورة ـ والذي تحوّل فيما بعد الى جناح للقاعدة وداعش.. متغذياً على الأخطاء، والفشل الجزئي في الادارة، والفراغ السياسي والأمني.. فإن المجتمع المدني القوي، استطاع ان يحافظ على جمهور الشباب ويصون توجهاتهم، ويفعّل جهودهم في اتجاه كبح توسع القاعدة وفكر التطرف. كما استطاع من جهة ثانية، أن يمنع تغول تنظيم القاعدة من ان يتحول الى بديل عن الأحزاب السياسية المدنية.

في البحرين، كما في تونس ودول عربية أخرى، فإن حضور المجتمع المدني كان له دور في أحداث عام 2011. ويسجل لحكومة البحرين أنها أفسحت المجال لقيام مجتمع مدني في شتى المجالات، كما أفسحت مجالا لحرية التعبير والرأي والصحافة منذ ذلك الحين، رغم التحديات والصعوبات.

مع هذا، يمكن القول بأنه لم تُتَحْ الفرصة الزمنية الكافية للمجتمع المدني البحريني للنضوج، فقد جاء تشكله متأخراً عن البلدان العربية الأخرى، وان كان سابقا لنظرائه في دول الخليج، التي يوجد في بعضها مؤسسات لمجتمع مدني.

أيضاً، لم يحصل المجتمع المدني البحريني على الحيّز الكافي للتعبير عن ذاته، وبناء قدراته، والقيام بمبادرات تعبّر عن نضجه، ما جعل القصور يعتريه في كثير من الأحيان.

من ملامح القصور في المجتمع المدني البحريني، أن الفاصلة بينه وبين التيارات السياسية من أحزاب وتكتلات وغيرها، كانت ضئيلة، ما عرّض استقلاله للخطر، وشبابه للذوبان في الحالة السياسية المتصاعدة، وبالتالي فقد المجتمع المدني البحريني توازنه بسبب أحداث 2011، ولم يستطع أن يؤدّي الدور الذي يفترض أن يقوم به، وهو دور كان يفترض أن يكون شبيهاً بدور المجتمع المدني التونسي، الأكثر نضجاً.

بمعنى آخر، ان المجتمع المدني البحريني لم يكن قادراً على لملمة الأطراف السياسية وقت الحاجة، كما فعل نظيره التونسي، خاصة وأنه فقد عناصر من قوته لصالح الاستقطاب السياسي.

وللحق، فإن الأطراف السياسية البحرينية كافة، لم تكن تنظر الى المجتمع المدني البحريني، نظرة تقدير واحترام، بقدر ما كانت ترى فيه أداة سياسية يُزجُّ بها في الصراع والخصومات السياسية.

أكثر من هذا، كان هناك، ولازال حتى الآن، من يرى في قوة المجتمع المدني في البحرين خطراً على السلطة، وربما منافساً لها، وفي أقل الأحوال فهو عبء مزعج على كاهلها.

مؤسسو مركز البحرين لحقوق الإنسان في لقاء مع الملك

الحقيقة أن غياب المجتمع المدني، أو عدم تشكله، أو الخشية من تقويته ونشاطه، ليس فقط أمراً ضارّاً بالاستقرار السياسي، وان الحكومات تخسر من غيابه نظراً لأنه يحمل بعض أعبائها. ليس هذا فقط، بل الأهم، هو أن المجتمع المدني في حال ضعفه، لا يستطيع أن يساعد الدولة وقت أزماتها. فقوة المجتمع المدني وإن أزعجت الحكومات أحياناً، إلا أن قيمته تظهر ـ كما في تونس ـ وقت الأزمات والشدائد، حيث قدرته الفائقة ليس فقط في لملمة الحالة السياسية المتشظية، وإنما أيضاً في حفظ أصل كيان الدولة من التمزّق (كسقوط مقومات الدولة/ وتفكك وحدة المجتمع/ وسيطرة قوى العنف على ما تبقى من دولة ومجتمع/ وتغول المناطقية وغيرها).

المجتمع المدني في البحرين ضحية للصراعات السياسية، من حيث أنه لم يستطع أن ينال حصته من الوقت لكي يراكم ويبني تجربة رشيدة ومستقلة. ومع هذا هو يتحمل مسؤولية جزئية للفشل في غياب مبادراته السياسية والاجتماعية، سواء على صعيد مواجهة الطائفية شعبياً، وعلى صعيد مواجهة العنف والتحذير منه، وعلى صعيد جذب الشباب بعيداً عن تيارات التشدد الفكري والسياسي.

بكلمة، إن عدم نضج المجتمع المدني البحريني، يعود في جزء كبير منه، الى عدم نضج الأطراف السياسية نفسها. إذ لو كانت ناضجة بما فيه الكفاية، واعية لدوره ومستقبله، لما عمدت الى استخدامه أداة في صراعها، ولمنحته الفضاء الكافي ليتمدد ويترشد في ممارساته ونشاطاته.

هذا ما حدث في تونس، حيث الفصل الواضح بين المجتمع المدني والأحزاب السياسية. وهناك وضوح ونضج لدى الطرفين، وفهم لدور كل منهما، وتقدير للمجتمع المدني ودوره. وما كان هذا النضج في كليهما إلا أن يدفع باتجاه قبول أن يكون هناك دور أساسي لهذه الجهات المستقلة، وغير الطامعة سياسياً، لأن تلعب دور الوسيط في حلحلة الأزمة السياسية هناك.

تجربة شخصية

في المقابل، أقدم لكم تجربة شخصية فيما يتعلق باستقلال المجتمع المدني البحريني.

ففي أوائل عام 2000، أتيحت لنا نحن المناضلين الحقوقيين القدامى (أنا، وعبدالهادي الخواجة، ونبيل رجب)، فرصة للعمل في داخل البحرين، حيث أعلن جلالة الملك عن مشروع إصلاحي متدرج ديمقراطي حقوقي، أضيف إليه عفو عام، وعودة المنفيين، وتعويضات، وما أشبه.

جئنا الى البلاد، وقررنا نقل عملنا من الخارج الى الداخل حقوقياً، وتقدّمنا بمشروع لإنشاء مركز حقوقي (هو مركز البحرين لحقوق الإنسان)، رفضته الحكومة ابتداءً، بحجة عدم الحاجة له، لأن هناك جمعية حقوقية قد تأسست بالفعل وهي (الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان).

لكننا رفعنا خطاباً الى جلالة الملك، شرحنا فيه طبيعة عمل المركز وأهدافه وآليات عمله، والتمسنا مساعدته بقبول تسجيل المركز رسمياً. ترتب على ذلك أن دعانا جلالته للقائه في قصره يوم 13 مايو 2002. وهناك استقبلنا جلالته بحفاوة وتقدير واستمع الينا، وقرر جلالته دعم المشروع بشرطين:

أولاً، ان يكون عمل مركز البحرين لحقوق الإنسان، محصوراً في قضايا البحرين، حتى لا تثار إشكالات مع دول الجوار؛

والثاني، أن نأخذ موضوع حقوق الإنسان بالتدرج والتعاون مع الحكومة، وعدم الاصطدام بها، لأن الجميع يخوض تجربة جديدة، بمفاهيمها وأساليبها، وأكد جلالته بأن علينا أن نتحمّل بعضنا بعضاً.

وفعلاً، فقد تفهمنا وقبلنا ما قاله جلالته، فنحن ندرك طبيعة وضع البحرين في محيطها الاقليمي، وندرك أيضاً أن المشروع الإصلاحي جديد، وأن ثقافة حقوق الإنسان جديدة على السيستم بأكمله.

بعدها، وجه جلالة الملك الوزارة المعنية بالمجتمع المدني (وزارة العمل والشؤون الإجتماعية) بتسجيل مركز البحرين لحقوق الإنسان رسمياً، وتم ذلك بتاريخ 6 يوليو 2002.

لكن المفاجأة، أنه وبعد التسجيل ببضعة أيام، وجدتُ نفسي وأحد المؤسسين في جلسة مع أحد قيادات المعارضة السياسية، وإذا بالمعارض القيادي يلقي علينا خطاباً، وكأن المركز يتبع تنظيمه السياسي. وتم تحميلنا مسؤوليات مواجهة الحكومة بملفات الماضي. يومها اعترضت، وقلت لصاحبي: ما علاقة المركز بهذا الرجل وأفكاره؟

لم تدم فعالية المركز طويلاً فبعد عامين مليئين بالتجاوزات من جانب المركز، والإنذارات من جانب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، قررت الأخيرة حلّه بتاريخ 28 سبتمبر 2004.

لقد بدأ الصدام مع الحكومة مبكراً، وتم تحذيرنا بشأن المخالفات التي يرتكبها المركز، وحين قام أحد مؤسسي المركز (عبدالهادي الخواجة) بإلقاء خطاب حاد ضد رئيس الحكومة، وهاجمه بألفاظ نابية وبصورة شخصية، ودعا عليه بالهلاك والموت، جاء قرار وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بحلّ المركز.

بيد أنني قد اتخذت قرار بالإستقالة قبل حلّ المركز بنحو عام، وتحديداً في 11 اكتوبر 2003، حيث بدا واضحاً ان المركز أصبح يتصرف كحزب سياسي، خلافاً لنظامه الأساسي، وخلافاً لما نبهنا جلالة الملك اليه. وبذا لم يقم المركز حينها بأي عمل حقوقي بقدر ما كان أداة من أدوات العمل السياسي المعارض.

لم يقبل الأخوة معي أن نتعاون مع السلطات في ملفات حقوق الإنسان، ولم نقم بفعالية حقوقية لخدمة أهداف المركز وهي: التدريب، ونشر ثقافة حقوق الإنسان، واصدار الدراسات والبحوث.

ولهذا كان تبرير استقالتي واضحاً:

1/ عدم اعتماد الأهداف التي أنشئ المركز من أجل تحقيقها.

2/ الاندفاع نحو تحقيق رغبات وبرامج جهات أخرى ليست لها علاقة باستراتيجية المركز وعمله.

3/ الصدام مع الحكومة والتصرف كمعارضة سياسية.

من كل ما جرى، بات واضحاً اليوم، أننا ضحينا باستقلال المجتمع المدني، وتخلينا عن العمل الحقوقي المستقل، وذهبنا الى العمل السياسي بإسم حقوقي، أكثر مما كنّا نقوم بعمل حقوقي لصالح حقوق الإنسان.

وعليه خسرنا نحن المدافعون عن حقوق الإنسان، والجمهور، والمجتمع عامة، واحدة من الفرص الأساسية التي كان يمكن من خلالها تنمية حقوق الإنسان، وتطوير التجربة الديمقراطية الوليدة، فانتكست الأمور، وتعقدت، وانتهت الى ما نعرفه اليوم.