حسن الشفيعي لـ (المرصد البحريني):

الوضع الحقوقي ضحيّة للإختلافات السياسية

في سياق تغطية الأوضاع الحقوقية والسياسية في البحرين، ومن أجل المساهمة في فهم ما جرى من أحداث، وما يؤمّل من حلول، كان للمرصد البحريني هذا اللقاء مع الناشط الحقوقي حسن موسى الشفيعي:

حسن موسى الشفيعي

هناك غياب واضح للمنظمات الحقوقية المحلية عن ساحة الأحداث، بما فيها الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، ومرصد البحرين لحقوق الإنسان، وحتى المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان. هل من تفسير لهذا الغياب؟


أتفق معكم بأن حضور من ذكرت كان ضعيفاً، من جهة إصدار البيانات ومتابعة قضايا الإنتهاكات، أو من جهة ترشيد الوضع حقوقياً في صخب الأزمة السياسية. وأتفق معكم بأن الصوت الحقوقي رغم ضعفه لم يلتفت اليه بسبب حجم وتسارع الأحداث اليومية، ما ترك المنظمات الحقوقية ـ من وجهة نظري ـ في وضع صعب من جهة ملاحقة التطورات، أو متابعة المسائل مع الجهات المسؤولية.

الأزمة السياسية وتطوراتها والأحداث المتلاحقة همّشت ما عداها من قضايا. وجرى ارتكاب المحظورات من الأطراف كافة الى حد سقوط ضحايا من المتظاهرين وأخذ (أسرى!!) من رجال الأمن، فضلاً عن أمور بشعة أخرى من محاولات دهس عديدة وقعت. ظهرت العديد من البشاعات، وكان صعباً ملاحقتها كلّها بالبيانات التي بدت ضئيلة القيمة، فمن كان يريد أن يستمع لصوت العقل والحكمة والتروّي؛ ومن كان مهتماً بالحفاظ على منجزات البلاد في الميدان الحقوقي تحديداً، فضلاً عن غيره، في الوقت الذي تعطلت فيه المؤسسات، والمرافق العامة، وارتفعت أصوات الأحقاد الطائفية، والتعبير عن المشاعر غير المسؤولة، وحيث تحكّم في الوضع صاحب الصوت الأعلى والأكثر تشدّداً؟

في مثل هذه الظروف كان من الأولويات لدينا، وربما لدى غيرنا، استيعاب التطورات اليومية التي يجري في سياقها انتهاكات حقوق المواطنين. ومع أننا قمنا برصد الانتهاكات، وأصدرنا بعض البيانات في هذا الإتجاه، إلا أن حماستنا لم تكن كبيرة، خاصة وأن تأثيرها كان محدوداً في ترشيد الوضع، وكنا مهتمين بأن لا ننزلق أكثر فأكثر الى الهاوية بسبب الصدامات السياسية.

لقد جرت انتهاكات حقوق الإنسان ـ وبعضها لازال ـ في ظل أزمة سياسية مثلت مضخّة تنتج لنا كل يوم انتهاكات متعددة. ومن البديهي أن نعمل وننصح بحل المشكل السياسي فهو الأساس عبر الحوار والتفاهم والسيطرة على مشاعر الشارع. ولكن للأسف فإن هذا لم ينجح.


ولكن المنظمات الحقوقية الدولية، كانت أكثر فاعلية ونشاطاً في إصدار البيانات. أليس كذلك؟


صحيح، ولكن هذه التغطية كانت تتعلق بحالات فرديّة، ولم تكن الصورة العامّة للوضع موضع اهتمام كبير. وكان من السهل ان تستخدم ـ في ظروف الأزمة ـ البيانات لصالح هذه الإتجاه أو ذاك. على أن تلك البيانات الحقوقية الدولية لم تعدّل في السلوك، وتضاءل إهتمام المعنيين بها، بل ـ وهذا مؤسف ـ فإن الشعور العام لدى اللاعبين السياسيين كان يشير الى أنهم لم يعطوا قيمة حقيقية لما يقوله الخارج الحقوقي، فضلاً عن الداخل. كان اللاعبون مهتمين بتحصين مواقعهم السياسية أكثر من أي أمرٍ آخر. باختصار كان الوضع الحقوقي ولازال ضحيّة للإختلافات السياسية.


أين يتّجه الوضع الحقوقي الآن، بعد أن هدأت الأوضاع نسبياً، وعادت الحياة طبيعية، مع بقاء التعقيدات السياسية؟


دعني أعبّر عمّا أرغب به وأتمناه وهو العودة الى الأصول والثوابت التي تضمنها ميثاق العمل الوطني. بقدر ما نحتاج الى القانون والنظام والهدوء، نتمنى أن يشمل ذلك التزاماً بالمعايير والمبادئ الحقوقية التي وردت في الميثاق والدستور، وأن تتوقف الخروقات في هذا الإتجاه. وأتمنى أن لا نخسر منجزاتنا على هذا الصعيد في السنوات العشر الماضية، وان تدبّ الحياة في مؤسساتنا الحقوقية الأهلية والرسمية. وأتمنّى أن تكون هناك معالجة حكيمة وحصيفة لمرحلة ما بعد الإضطرابات، تراعي الضوابط الحقوقية.

"الأزمة السياسية تمثّل مضخّة تنتج لنا كل يوم انتهاكات متعددة، وتحسين الوضع يبدأ بحلّها عبر التوافق والعودة الى الميثاق"

لكن إن جئت على أرض الواقع، فلازال الموضوع السياسي مسيطراً على الأذهان، ولازالت هنالك شكاوى ومعلومات تردنا تتعلق بالعديد من التجاوزات للقانون، فضلاً عن وجود عدد من المتوفين في ظروف مختلفة.

معالجة مثل هذه الأمور من مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى، عبر المراجعة والتحقيق والتشديد على الإلتزام بالقوانين. هناك حاجة ماسّة الى التعامل مع القضايا الحقوقية بشفافية ومسؤولية أكبر. لا أحد يستطيع أن يغطّي على ما جرى. التسجيلات المصورة تابعناها نحن والمنظمات الحقوقية الأخرى، وهي تلزم الجهات المسؤولة التحقيق بمهنية فيها وفوراً، ومعاقبة المسؤولين عنها، واتخاذ اجراءات بعدم تكرارها في المستقبل.

ما نقوله هنا لا علاقة له بالسياسة ومجرياتها اليومية ولا بالمزايدات السياسية. إن احترام حقوق الإنسان يجب ان يكون من أولويات الأجهزة التنفيذية، بل وكل جهة رسمية وغير رسمية. وحين نطالب بالتحقيق فيها لا نقصد التشهير ولا الإصطفاف السياسي او الطائفي، وإنما ننظر الى المشاكل برؤية حقوقية، وبتطلّع بنّاء لتنفيذ ما جرى التوافق بشأنه في القوانين المحلية التي تكفل ـ الى حدّ كبير ـ احترام لحقوق الإنسان في حال تم تطبيقها. نحن نبحث عن حلول وفق معايير حقوق الإنسان، وما نصّت عليه القوانين المحلية وما ألزمنا به أنفسنا من اتفاقيات دولية.


وماذا عن الضحايا الذين سقطوا من رجال الأمن أثناء أدائهم للواجب، وما بثّ من صور لدهس واختطاف وتعديات وتخريب؟


حتى هذه الأمور ننظر اليها من زاوية حقوق الإنسان لا من زاوية السياسة. فمن تعدّى على حقوق المواطنين يستحق الحساب والمعاقبة. نحن لا نستهين بالإخطاء التي ارتكبت والأرواح التي أزهقت من مدنيين ورجال أمن وعمال أجانب. احترام حقوق الإنسان والدفاع عنها واجب بغض النظر عن هوية منتهكها ودينه ومذهبه وعرقه وقبيلته ووظيفته. لا نريد أن نفقد ما تبقّى لدينا من احترام لحقوق الإنسان وما أنجزناه معاً طيلة السنين الماضية، فيذهب ضحية الطائفية أو المصالح السياسية أو التساهل أو التسييس.


ألم تساهم الجمعيات السياسية فيما وصلنا اليه من تدهور لحقوق الإنسان؟


بلى.. الجمعيات السياسية لم تأخذ على يد الشارع. لم تضبط تصرفاته. لم تبث ما يكفي من توجيه لاحترام الآخرين وممتلكاتهم وحقوقهم. صحيح أن حجم الشارع كان أكبر من أن تضبطه وتسيطر عليه هذه الجمعيات، لكنها في نفس الوقت تتحمل مسؤولية في هذا الأمر، ولا يكفي القول انها كانت ضد هذا الفعل او ذاك. فما دامت أنزلت الناس الى الشارع، فهي مسؤولة بقدر ما عن تجاوزات المتجاوزين.

من غير المقبول أن نرى أخطاء الحكومة حقوقياً ونندد بتجاوزاتها ونعلن عن ضرورة محاسبتها ومعاقبتها، في حين نتغاضى عن الإنتهاكات التي مارسها أفراد من جمهور تلك الجمعيات، وإن كان حجم المسؤولية يختلف بين الحكومة والجمعيات، ولكن في النهاية فإن المسؤولية من حيث المبدأ واحدة.

"الشعور العام لدى اللاعبين السياسيين يشير الى أنهم لم يعطوا قيمة حقيقية للمنظمات الحقوقية، وكانوا مهتمين بتحصين مواقعهم السياسية"

هل ظهر في بيانات المنظمات الدولية ما يشير الى الانتهاكات التي قامت بها أفراد وجماعات محسوبة على المعارضة؟


حسب اطلاعي لم أقرأ شيئاً من هذا. المنظمات الدولية غالباً ما تراقب وتتابع سلوك الدول، وهي تعتقد بأن انتهاكات حقوق الإنسان تجري في معظمها على يد الحكومات؛ اللهم إلا في حالات الصراع الأهلي، والإحتراب المسلّح بين الحكومة ومعارضيها، فإنها تشير وتراقب سلوك تلك المعارضات. في الحالة البحرينية، وحسب متابعتي، أُخذت تلك المنظمات الدولية بالصور والمعلومات الأولى للأحداث، وتأثرت بها، وأصدرت بياناتها. ولكن نظرتها لم تكن عميقة بما فيها الكفاية فتنظر الى الإطار السياسي الذي كانت تجري فيه الأحداث. وقد أهملت بصورة واضحة التجاوزات التي جرت على يد جهات حُسبت على المعارضة المتشددة.

لكني هنا أودّ أن ألفت النظر الى أن هذه المنظمات الحقوقية تواجدت على الساحة البحرينية عبر زيارات عديدة قامت بها أثناء الأزمة، وقد التقت بالمسؤولين وممثلين عن الجمعيات السياسية المعارضة، وكان يفترض ان يصلها من الحكومة أو غيرها معلومات عن تلك التجاوزات بغض النظر عن حجمها. هناك تجاوزات حدثت في مجمع السلمانية المركزي، وفي الجامعة، ومنع طلبة من الذهاب الى المدارس، أو الموظفين من الذهاب أعمالهم، وغير ذلك.


وماذا عن التحريض الطائفي؟


التحريض الطائفي يتعارض مع صميم حقوق الإنسان، ومع قوانين البحرين ودستورها. ولقد وقعنا في خضم الأزمة السياسية في المحظور مع الأسف، سواء كان الأمر بقصد أو بدون قصد. لقد بلغ التأجيج الطائفي حدوداً غير منطقية، وشمل المنطقة كلها وليس فقط البحرين. كانت القضية مطالب سياسية معتدلة، ثم ذهبت بعيداً الى حد اسقاط النظام، وقد تدخل الإعلام الخارجي والداخلي فأجج الحس الطائفي. وما يؤسف له أكثر، أن عدداً من المثقفين والنخب المعروفة بالإتزان والحكمة انساقت في هذا الإتجاه، وداوت الشارع بالذي هو الدّاء.. وهي بهذا لم تقدم عملاً طيباً يؤدي الى التئام الجراح والوصول الى حلول. تأجيج الطائفية يمثل دعوة الى حرب أهلية والى تمزيق المجتمع لسنوات طويلة قادمة. كما أن العنف يعتبر واحداً من أهم منتجات الطائفية لمن يريد قراءة التاريخ.

من المؤكد أن الطائفية لا تقدّم حلاً للبحرين. لا يمكن للبلاد أن تنهض في انقسام طائفي، ولا يمكن لحقوق الإنسان أن تنتشي وتثمر إلا في ظل مجتمع مدني متسامح، وفي ظل ثقافة وطنية جامعة، وهويّة وطنيّة جامعة، وهذا ما نريد من العقلاء أن يقوموا به.

والأخطر في الموضوع الطائفي أن تنزلق أجهزة الإعلام ـ التي يفترض أن تكون حريصة على تعزيز اللحمة الوطنية وعلى لعب الدور الترشيدي والجامع لأهله ـ في اثارة الحساسيات الطائفية. مثل هذا العمل يجعل الإعلام جزءً من المعركة وضحيّة لها، ويصعب عليه حينها ـ إذا ما فقدت الثقة به ـ أن يقوم بالدور المناط به في خدمة المجتمع بكل فئاته.


لكن لا أظنّك تجهل التحريض الإعلامي الخارجي أيضاً، وحتى الغربي منه؟


لقد أشرت الى ذلك. ولكن الأخطر هو التحريض الداخلي لأن قراره بيدنا، وتأثيره مباشر علينا. وأيضاً يجب التفريق بين التحريض السياسي لفئة أو لشعب على حكومته كما تقوم بذلك بعض الفضائيات الخليجية، وبين التحريض الطائفي الذي يستثير المشاعر لتحقيق غايات سياسية. هذا الأخير، خطره أكبر واحتمالية العنف فيه أشدّ، ونتائجة على الصعيد الإجتماعي صاعقة ومدمّرة.

في الحالة البحرينية وجد كلا النوعين من التحريض: السياسي والطائفي؛ الداخلي والخارجي. من التحريض السياسي الدفع باتجاه تبنّي مطالب إسقاط النظام، والإستهانة برموزه ومؤسساته، وعدم القبول بالحدود المعقولة في التحرّك كما في المطالب، وهو ما أدّى في النهاية الى الخروج من دوّار اللؤلؤة والى محاصرة المرفأ الإقتصادي، وقطع الطرقات السريعة، بل والوصول الى مراكز الحكم والقصر الملكي. هذا نتج من التحريض السياسي أكثر من غيره، وهو من التحريض الداخلي أكثر من كونه خارجياً.


حدثت تجاوزات من وسائل الإعلام المحلية كجريدة الوسط أليس كذلك؟

"المجتمعات المتنوعة ثقافياً بحاجة الى توافق داخلي بين مكوناتها الأساسية، وهناك حاجة لمساهمة كل القوى في صناعة مستقبل البحرين السياسي"

قبل أن أتحدث عن جريدة الوسط، دعني أذكّر بأن وسائل اعلامية غربية اشتكت من القيود الرسمية في تغطية الأحداث. حدث هذا مع مراسل رويترز مثلاً، ومع البي بي سي، والسي إن إن، وآخرين. الإجراءات التي اتخذت بحق هذه الوسائل الإعلامية لم تكن متوقعة من بلد مثل البحرين المعروف بانفتاحه الإعلامي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي. تستطيع أن تقول لي بأن ما جرى كان في ظروف غير طبيعية سياسياً واجتماعياً. إذا كان كذلك، فعلينا ان نعود الآن لوضعنا الطبيعي السابق بثقة واطمئنان، وأن نفتح أبوابنا ونوافذنا لكافة وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان الدولية كما كنّا نفعل من قبل.

أما موضوع الوسط، فهي صحيفة يمكن اعتبارها أنها (المولود الشرعي للإصلاحات). فهي ولدت في بداية الإصلاحات وبسببها؛ وكانت البحرين كمجتمع بحاجة اليها لتعبّر عن آراء مختلفة وشجاعة الى حدّ المغامرة أحياناً. لم تكن الوسط ـ في نظري ـ تعاني من إرث الماضي كالصحف الأخرى التي ولدت في ظروف مختلفة، وبالتالي لم تكن تحفل كثيراً بالقيود. ومن المؤكد ان انطلاقة الوسط رفعت سقف الحريات لدى الصحافة البحرينية كلها، لأنها كانت تمثل الحدّ الأقصى.

لقد قيل أن وجود جريدة كالوسط ضرورة للبحرين اجتماعيا وسياسياً ونفسياً وديمقراطياً. وهذا صحيح. ولكن هذا لا يلغي حقيقة أنها ارتكبت أخطاء مهنية كثيرة، ربما بسبب التساهل في الإدارة، ما جعل البعض ينظر اليها وكأنها صوتٌ للتحريض والتشدّد.


دعنا من الماضي والحاضر، ولنقرأ المستقبل: ما هو المخرج للوضع الحالي؟


في ظنّي أن الأحداث بدأت بخطأ وانتهت بخطئين. بدأت بخطأ مواجهة التظاهرات التي أدّت الى مقتل متظاهرين؛ وقد وصف ولي العهد ذلك بالمأساة، وأعلنت البحرين حداداً رسمياً. وهناك خطأ المعارضة المعتدلة التي تلكّأت في الحوار واستنفذت الوقت، وربما وضعت بعض الشروط التي يمكن تصنيفها بأنها غير واقعية. وانتهى الأمر بخطأ قاتل من قبل المعارضة المتشددة التي خرجت من دوّار اللؤلؤة وحاصرت مبانٍ رسمية، وقطعت الشوارع العامة، وحاولت فرض العصيان المدني.

في الخطأين الأول والثالث يفترض أن تكون هناك محاسبات بعد التحقيق. أما الخطأ الثاني فلا حلّ له إلا بالعودة الى الحوار، وهو ما فتئنا ندعو اليه، وفق المبادئ التي وضعها ولي العهد، ليصار لاحقاً الى ما يشبه ولادة سياسية جديدة وفق مبادئ ثلاثة: (ملكية/ دستورية/ توافقية). الحلول التوافقية أقرب الى العدالة، والى تلبية مطالب الجميع. لكن هذا يستدعي التنازل، فلا أحد سيحصل من خلال الحوار على كل ما يريد؛ كما لا أحد يستطيع أن يستأثر بالسلطة ومنافعها.


لماذا لم تقبل المعارضة عروض الحوار، رغم أن الحكومة وعدت صراحة بمزيد من الإصلاح السياسي؟


هناك أسباب عديدة: أولها عدم الثقة بين الطرفين الرسمي والمعارض؛ وخشية الأخير من أن الحوار قد لا يخرج بنتائج تلبي الحدود الدنيا لمطالبه، لهذا وضع شروطاً مسبقة بسقف عال، وأظهر تمنّعاً. وهناك سبب ثان، وهو عدم توافر الأجواء المناسبة، حيث انقسام الشارع المعارض، وسيطرة التشدّد على قسم منه، حيث أُخذه الى أبعد الحدود، وكان يرفض أي حوار، واستخدم المتشددون كل الوسائل لمنع الحلول السياسية وإفشال لغة التصالح والهدوء. ولعلي أضيف سبباً ثالثاً، وهو بروز الشارع السنّي كقوّة في المعادلة السياسية، بحيث تعدّدت الأطراف وتوسّعت المطالب، وقد خشي الشارع السنّي من أن ينتج الحوار تعديلات وقرارات تكون على حساب مصالحه وتغفل مطالبه الخاصّة. من هنا كان دقيقاً القول بأن هناك حاجة الى (التوافق) أي الى تعديلات سياسية توافقية.


ماذا تقصد بالنظام (الملكي/ الدستوري/ التوافقي)؟


المقصود: أن النظام السياسي هو نظام ملكي، أي ان العائلة المالكة بحكم استفتاء سنة 1971، واستفتاء ميثاق العمل الوطني 2001، تلعب دوراً مركزياً في الحياة السياسية، وهذا من الثوابت الدستورية. كما يفترض أن تلعب العائلة المالكة دور المرجعية الذي يحفظ التوازن الاجتماعي والسياسي، ويحرص على مصالح الفئات الإجتماعية كافة، عبر تساميه على انتماءاتها، ويوازن بينها، فلا تطغى إحداها على الأخرى، ما يعني أنها تمثّل قوّة حيادية لا يفترض أن تحسب على هذه الفئة أو تلك، وإلا اختلّ الميزان.

من جهة أخرى، يفترض أن يجري التوافق على تعديلات في هيكلة النظام السياسي وفق الحوار والمبادئ السبعة التي عرضها ولي العهد. والمسألة الأخرى، هي التوافق بين الشيعة والسنّة. إن المجتمعات المتنوعة ثقافياً بحاجة الى توافق داخلي بين مكوناتها الأساسية، وهذه بديهية فيما أظن. ليست القضية تتعلّق بمجرد الدعوة للإصلاح السياسي، وإنما أيضاً بمدى مساهمة الفئات المجتمعية فيه؛ ومدى مراعاة المنتج السياسي لمصالح مختلف الفئات ونجاحه في تهدئة هواجسها.

لا يمكن بناء نظام سياسي مستقرّ يتجاهل مصالح ومخاوف الفئتين. يمكن لكل جهة أن تطالب بما تشاء، ولكن في النهاية يجب أن يتفق الجميع على تلك المطالب باعتبارها تمثل ليس فقط الغالبية من الشعب، بل وايضاً تمثل التنوع والتعدد في المجتمع، بحيث يشعر المتنوعون جميعاً بأنهم شاركوا في صناعة مستقبلهم، وأن لا حلول قد فرضت عليهم.