الجهات الفاعلة حقوقياً، وآليات العمل الحقوقي

مع مَنْ تتعامل الدول في الشأن الحقوقي؟. هناك طيفٌ واسع من المؤسسات والدول على مستوى العالم، يضجّ بعشرات الألوف من المؤسسات والمنظمات في كافة التخصصات، ولكن لإعطاء صورة مصغّرة لهذا العالم الحقوقي، نذكّر باللاعبين الأساسيين:

1ـ أجهزة الأمم المتحدة، وبالتحديد المفوضية السامية لحقوق الانسان، ومجلس حقوق الانسان، والوكالات المرتبطة بالأمم المتحدة، كمنظمة العمل الدولية، واليونسكو، واليونسيف، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها. كل هذه المؤسسات لها جوانب حقوقية لا يجب إغفال دورها وأهميته.

2ـ المنظمات الحقوقية الدولية، غير الحكومية، والتي تعمل في إطار دولي (أمنستي/ هيومان رايتس ووتش/ هيومان رايتس فيرست/ الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان/ المادة 19/ المنظمة الدولية لمكافحة التعذيب/ هيومان رايتس ديفندرز ، وغيرها).

3ـ الدول، أو بعض منها، وهي الدول الكبرى الغربية تحديداً والتي تميل الى تطبيق نموذجها ورؤيتها عبر استخدام معايير حقوق الانسان والديمقراطية. هذه الدول لديها تأثير على اجهزة الأمم المتحدة، وعلى الاعلام الدولي، ولديها قدرة على فرض عقوبات على الدول، وعلى الاستثمار السياسي لأخطاء خصومها حقوقياً، كما أن لها تأثير على المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وعلى المنظمات الحقوقية غير الحكومية الدولية وحتى المحلية في بعض البلدان، وذلك من جهة التمويل، والتعليم، وإكساب الخبرات عبر التدريب. أيضاً فإن هذه الدول الغربية، لديها رصد خاص عبر سفاراتها للمنظمات غير الحكومية وأوضاع حقوق الانسان في كل دولة، وتصدر بعض وزارات خارجيتها تقارير فصلية وسنوية، كجزء من عملها، كون موضوع حقوق الإنسان صار جزءً محورياً من سياستها الخارجية.

لكن هذه الدول، تتعرض ايضاً الى ضغوط محلية من منظمات حقوقية او برلمانات او اعلام، او حتى احزاب منافسة، وذلك لاتخاذ قرارات تجاه دولة ما او قضية حقوقية ما. أي أنها تؤثّر في تلك المؤسسات الحقوقية.

هذه الدول لا تعمل في عالم منعزل، فهي تمارس الضغط، مثلما يُمارس عليها ايضاً، سواء تعلّق الأمر بسجلها الحقوقي هي، أو سجلّ حلفائها.

4ـ المنظمات الحقوقية الاقليمية والمحلية، كالمنظمة العربية لحقوق الانسان، ومركز القاهرة لحقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية الموجودة في كل بلد في العالم. هذه جميعاً لها علاقة بأجهزة الامم المتحدة، وبالدول، وبالمنظمات الدولية الحقوقية، وبالتالي فهي شريك في منظومة حقوق الانسان العالمية، ولا يمكن فصلها عنها، أو التقليل من شأنها، أو النظر اليها كأداة بيد دول أخرى.

5ـ المنظمات المهنية المحلية والاقليمية وكذلك الدولية منها بشكل خاص؛ كمنظمة المحامين الدوليين؛ واتحاد النقابات الدولية؛ اتحاد نقابات الاطباء الدوليين؛ مراسلون بلا حدود؛ منظمة الشفافية الدولية؛ وغيرها.

هذه الجهات كلها معنيّة بما يجري في البحرين وغيرها من الدول. وكلها تقوم بالمراقبة، وتتابع الشكاوى، وتمارس الضغط، وتطالب بالإصلاح، وتتصل بالإعلام، وتضغط على الدول، وتصدر التقارير، وتتواصل مع المعنيين حقوقياً في كل البلدان، سواء كانوا مجتمع مدني، أو حكومي، أو حتى أفراد حقوقيين او مدافعين عن حقوق الانسان.

مسار وآليات القضية الحقوقية:

تمثّل المنظمات الحقوقية طرفاً او جزءً من سلسلة ضغط، قد تبدأ بشخص واحد في دولة ما، لتصل تموجات عمله الى أعلى سلّم النشاط الدولي.

أ ـ قد تبدأ القضية بخبر عن وقوع تجاوز حقوقي مثلاً. يلتقطه الناشط الحقوقي، فيطالب ـ محلياً ـ بالتحقيق فيه وايقاف التجاوز، ثم ما يلبث ان يشيع الخبر، ويوصله هو أو آخرون الى المنظمات الحقوقية المحلية والمؤسسات الحقوقية الدولية الأخرى المهتمة به.

ب ـ في الداخل، يتم تكتيل الأنصار ضدّ التجاوز الذي حدث، وحسب أهميته، قد تقوم مظاهرات، أو اعتراضات اخرى، قانونية أو شعبية على الأرض. وبحسب الاستجابة الرسمية يكون رد الفعل تصاعدياً او تنازلياً.

ج ـ في الداخل ايضاً: اما يمضي التجاوز وفق آلية قانونية، فيتخذ الأمر مساراً قضائياً معيّناً، فيشتغل المحامون، والى جانبهم تشتغل القوى السياسية التي قد تستثمر الحدث، فتنتقد السلطات، ويروج الخبر في الاعلام الشعبي والالكتروني. اما اذا لم توضح السلطات المعنيّة سبب التجاوز، او لم تقم بتوضيح موقفها، أو تعديل سلوكها، او تباشر بالتحقيق في القضية المثارة، وعمدت الى الالتزام بالصمت، فإن الأمور تتفاقم وتكبر ككرة ثلج. ايضاً يحدث ذات الأمر، اذا ما كانت التبريرات غير مقنعة للرأي العام المحلي والدولي.

د ـ على الطرف الآخر، تلتقط المنظمات الحقوقية الدولية الخبر، فتنشره في كثير من الأحيان، كما تفعل المنظمات الإقليمية العربية ذلك، ويصبح خبراً شائعاً في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية. وفيما يتعلق بالمنظمات الحقوقية الدولية، فإن كان التجاوز صغيراً.. سجّلته واحتفظت به ليكون ضمن التقرير السنوي، أو ضمّته الى تجاوزات أخرى قد تظهر في بيان صحفي. اما اذا كان التجاوز كبيراً، فيستدعي ذلك عدّة أمور، تبدأ بالإتصال بالسلطات الرسمية. هنا فإن العديد من الدول تتجاوب مع الاتصال، فتوضح موقفها في حينه بدون تأخير، وتقوم بحل المشكلة ان كانت صحيحة، او تكون قد وضّحت ملابسات الأمر، فتقتنع تلك المنظمات وينتهي الأمر. اما في الدول التي اعتادت على التأخير وعدم الاستجابة، فإن المنظمات الدولية ترسل لها رسالة، وتنتظر الجواب، وفي الغالب لا يأتي الجواب أو يأتي متأخراً جداً، فتصدر المنظمات الحقوقية الدولية بيانا او تنديداً بالإنتهاك الذي قامت به الدولة المعنية، وتعتبر تلك المنظمات ما وصلها من معلومات صحيحاً ـ وإن كان من طرف واحد ـ وتبني عليها مواقفها.

هـ ـ في بعض الأحيان يكون التجاوز كبيراً وغير قابل للتبرير او الإنتظار أياماً، كاعتقال شخصيات كبيرة ومعروفة، او وفاة اشخاص تحت التعذيب، فإن المنظمات الدولية في الغالب تسارع الى اصدار بيانات عاجلة (Urgent Action)، وفي نفس الوقت تواصل التحقيق، وترسل الرسائل للسلطات المعنية.

و ـ البيان العاجل يعني تعبئة كل انصار المنظمات الحقوقية في دول العالم ضد الانتهاك المعني والدولة التي قامت به. فيتحرك آلاف من الأشخاص دفعة واحدة باتجاهات شتى: يكتبون الى السلطات المعنية مباشرة، او الى سفاراتها في الخارج، او يتصلون بالإعلام في بلدانهم لترويج الخبر، او يتصلون بسياسييهم لاتخاذ مواقف، واحيانا يتم تحريك البرلمانات، او القيام بفعاليات امام السفارات او في ندوات أو غيرها. كما يتم الاتصال بأجهزة الأمم المتحدة، وبكل المنظمات الحقوقية الأخرى لتشاركها نفس القضية، ولتقف معها نفس الموقف. وقد يتكرر مثل هذا النداء العاجل حسب تطورات القضية، ليصل تالياً الى الحكومات في المحافل الدولية، وتثار القضايا نفسها اثناء زيارات مسؤولين اجانب الى الدولة المعنية، فيطلبون اثارة موضوع الانتهاك مع المسؤولين وهكذا، تبقى المسألة حيّة لسنوات.

ك ـ قد تذهب قضايا الانتهاكات الى حدود أبعد من هذا؛ فبعد ان يتشبّع الرأي العام الدولي بأخبار الانتهاكات، وبعد ان تخسر الدولة المعنية سمعتها، يتم التضييق عليها سياسياً من خلال اجتماعات مجلس حقوق الانسان، أو أثناء المراجعة الدورية الشاملة، وقد تظهر محاولات اصدار قرارات او بيانات مشتركة، ثم تقوم المنظمات بالمطالبة بتخفيض التعاون السياسي او الاقتصادي او الاستراتيجي مع الدولة المنتهكة، وقد يصل الأمر الى المشاغبة عليها، والمطالبة بمعاقبتها، ومحاصرتها سياسياً، واعلاميا، وربما وصل الوضع الى تبرير شن حروب (سوريا العراق) او الاكتفاء بالقطيعة الدبلوماسية والتضييق (كوريا الشمالية/ فنزويلا/ ايران/ كوبا/ روسيا).

إن إدراك هذه السيرورة في العمل الحقوقي، تفرض على الدول أن لا تمارس ابتداءً أية انتهاكات، وان تعالج الثغرات القانونية لديها، وأن تحلّ بالسرعة المطلوبة قضايا التجاوزات حتى لا تتضخّم فتعطي أثراً كبيراً يتطور سلبياً على الصعيد الدولي.