حسن موسى الشفيعي

تحدّي الإصلاحات السياسية في البحرين

حسن موسى الشفيعي

تكاد تكون الأسباب والمعوقات لنشوء وتطور الديمقراطية في البحرين متطابقة مع أكثر بلدان العالم التي سلكت هذا المسار، فالمشاكل والتحديات مشتركة، مع بعض الخصوصيات لكل دولة. مع وصول الملك حمد بن عيسى آل خليفة عام 1999 الى سدة الحكم، انطلق مشروع الإصلاح السياسي مع ولادة ميثاق العمل الوطني عام 2001، فنشأت جمعيات سياسية وحقوقية وغيرها، واتسعت مساحة حرية التعبير والتجمع، وقامت انتخابات بلدية وبرلمانية. هذه قراءة سريعة لأهم التحديّات للمسار الديمقراطي، سواء تلك المرتبطة بالسلطة أم بالمجتمع المدني والجمعيات السياسية، وغيرها.

فيما يتعلق بالجمعيات السياسية والمجتمع المدني

بعكس ما يبدو في الظاهر، فإن القوى السياسية والمجتمعية البحرينية لم تكن متفقة على تفاصيل المسار الديمقراطي وحدوده، وربما رأى البعض في الديمقراطية ذاتها خطراً على مصالحه ووجوده، حيث يعتقد البعض بأن المزيد من الديمقراطية يعني سيطرة فئوية (للشيعة تحديداً) ولذلك لم تقبل بعض الأطراف مسألة الحكومة المنتخبة، لأنها ستنتج حكومة شيعية او سيطرة اكثرية شيعية عليها.

لم تنجح القوى السياسية بعد الإصلاحات في تجاوز دوائر الإنتماءات الضيقة، المذهبية منها بشكل خاص، حتى ولو كانت في نظامها الأساسي مفتوحة من الناحية النظرية، ولكن عملياً بقيت الخطوط المذهبية وحتى الخطوط المرجعية الدينية داخل كل اطار مذهبي محدداً للإنتماءات السياسية. هذا يعود الى ضعف مجتمعي في الثقافة الوطنية والديمقراطية، وكان يؤمل أن تفرز الديمقراطية مع الزمن أحزاباً سياسية مدنية تنجح في تجاوز الإنتماءات الضيقة والعصبيات المغلقة.

لم تنجح الجمعيات السياسية في التوصل الى تحالفات سياسية، وحتى الى قواسم مشتركة سياسية حاسمة، لا قبل ولا ما بعد الإصلاحات، ولم يكن هناك توافق واضح حول الكيفية والغاية النهائية التي تسير باتجاهها عجلة الإصلاح السياسي: هل تواصل الى هدف مملكة دستورية؛ ام هل تتوقف عند الموجود والقائم وكفى؟ لذا لم تكن هناك تحالفات على شكل ومحتوى النظام الديمقراطي الذي يجب ان يأخذ مكان النظام القديم والسرعة التي يجب ان تعتمد في تنفيذ الإصلاحات. غني عن القول بأن تأسيس أي نظام ديمقراطي بحاجة الى تفاهمات مسبقة بين مكونات المجتمع من جهة، وبين هذه المكونات والسلطة من جهة ثانية. وهذه مشكلة تطرح بقوة وعنوانها العام: كيفية الوصول الى نظام سياسي توافقي.

لم تنجح تجربة المجتمع المدني في البحرين بشكل كاف، فهي كانت أسيرة انتماءاتها السياسية السابقة، ولم تتغلب على الإنشقاقات الاجتماعية وغيرها. هذا يعود الى حقيقة انها تجربة لم يتح لها الوقت الكافي للنضوج، وبالتالي كانت مساهمتها في دفع العجلة الديمقراطية وانضاج المجتمع محدودة، وان كان عدد جمعيات المجتمع المدني كبير جداً.

وجد بين المعارضة ومنذ أيام الإصلاح الأولى من يشكك في العملية السياسية، ويرى أنها دون المستوى المطلوب، واتخذ قراراً ليس فقط بمقاطعتها (الوفاق قاطعت الانتخابات الأولى ثم عادت بعدها)، وانما ايضاً محاربة العملية من جذورها، وطرح مطالب راديكالية، وعدم قبول التدرج نحو الديمقراطية، واعتماد خطاب حرق المراحل، والتغيير الجذري. هذا ساهم في توتر السلطة نفسها، وفي دعم المعارضين للتحول الديمقراطي، وأضاف قيوداً على الجمعيات السياسية المشاركة في العملية السياسية، وكل هذا أضاف معوّقاً جديداً واضعف زخم الاندفاع نحو ذلك التحول المطلوب.

السلطة التنفيذية

كما في كل البدايات نحو الديمقراطية، فإنها كانت مشجّعة وانطلقت بزخم عام 2000، لكن وكما في كل التجارب الديمقراطية وجد في السيستم القائم قوى محافظة تعارض المضي فيها، وتعمل على تعويق مشروع القوى الاصلاحية، وقد نجحت تلك القوى في تعطيل الزخم الإصلاحي الناتج أصلاً من مبادرة الملك، وبدأت الهواجس والمخاوف بشأن الإستمرار فيه تتوسع.

ومن معوقات التحول الديمقراطي: وجود تركة ثقيلة من عصر ما قبل الإصلاحات، نجحت القوى الإصلاحية في حلحلة عدد لا يستهان به منها، ولكن بقيت موضوعات لم تحل إلا جزئياً، مثل: تعويض ضحايا فترة ما قبل الإصلاحات؛ وكيفية ايجاد توازن واستيعاب كافة فئات المجتمع في مؤسسات الدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، كما يؤكد ذلك الميثاق الوطني والدستور. وهذه ـ اضافة الى اسباب اخرى ـ استُغلت فولدت تحركات في الشارع وصنعت الإضطرابات والشغب لعدة سنوات، وأبرزت مطالب سياسية راديكالية تشكك في كل العملية السياسية وتقلل من أي انجاز تحقق.

لم تنجح التطورات الديمقراطية في تحسين أداء الحكومة فيما يتعلق بالخدمات للمواطنين؛ في حين كانت هناك فسحة كبيرة للإعتراض الشعبي على جوانب التقصير تلك، ما سبب تعقيدات وطرح اسئلة تجاه جدية ومنافع التحول الديمقراطي ومنتجاته.

الحراك الشعبي في فبراير 2011 جاء نتيجة تأثيرات الربيع العربي، مترافقاً مع فشل في السلطة والمعارضة وأداء الاجهزة الرسمية بما فيها الأجهزة الوليدة كالبرلمان. ومع هذا فإن وقوع الحراك قد أنتج معوّقات ضخمة امام العودة الى المسار الديمقراطي، حيث انسحبت المعارضة من العملية السياسية، ووقعت انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان. وكان من نتيجة الحراك وقوع شرخ اجتماعي طائفي كبير في البلاد الى جانب الشرخ السياسي، وكلها أمور زادت من حجم المعوقات. لكن الحراك نفسه فتح فرصة لانتاج نظام سياسي اكثر استقرارا واستجابة لمتطلبات المرحلة ويتجاوز الأخطاء وأوجه القصور التي كانت قائمة. هناك نافذة لازال الكثيرون ينتظرون الإستفادة منها لكي تعبر البحرين الى الضفة الأخرى: ديمقراطية مستقرة آمنة.

ترى قوى المعارضة انه كان لدى السلطة السياسية مخاوف غير مبررة، من جهة افرازات الديمقراطية، وإمكانية الإنقلاب عليها. فالسلطة كانت تعتقد بضرورة استيعاب الشيعة سياسياً، ولكنها لم تكن واثقة من أدائهم السياسي، وما إذا كانت العملية السياسية بحدودها التدرجية تلقى قبولاً لديهم، دون أن ينقلبوا عليها. هذا أدى برأي المعارضة الشيعية الى تعقيد العملية السياسية، والى زرع عدم الثقة من خلال اجراءات رأتها غير صحيحة، مثل تلك التي تتعلق بإقرار الدستور وتقسيم الدوائر الانتخابية؛ ووضع آليات برلمانية جعلت من إقرار الأنظمة والتشريعات تجري ببطء شديد. أما السلطة، فتتحدث عن جهود للمرور بالعملية السياسية الديمقراطية الإنتقالية الى بر السلام بأقل الخسائر، مع ما يتبع ذلك من مراعاة للظرف الإقليمي والقوى السياسية داخل السيستم وخارجه، وأن الأمر لم يكن يتقصد الشيعة، بل بانجاح المشروع الإصلاحي الذي تتبناه وتسعى لإنجاحه.

الوضع الإقليمي

العامل الإقليمي كان وسيبقى معوقاً اساسياً من معوقات التحوّل الديمقراطي في البحرين. فوجود الأخيرة ضمن إقليم لا يشجع على الديمقراطية إن لم يكن معادياً لها، ولّد ضغوطاً هائلة على التجربة البحرينية، بأن تخفف من مسيرتها كونها لا تتماشى مع طبيعة أنظمة الحكم القائمة، التي لا شك انها كانت تخشى من احتمال انتقال التجربة البحرينية اليها.

ومع التحول الذي حدث منذ فبراير 2011، استغلّت ايران الأوضاع المضطربة في البحرين عبر ماكنتها الإعلامية في تأجيج الصراع السياسي وتعميق الإنشقاق الإجتماعي. ومثل ذلك أيضاً يمكن القول بان الضغوطات الغربية السياسية والإعلامية والحقوقية على حكومة البحرين كانت من الضخامة بحيث ان الحكومة البحرينية لم تستطع تحمّلها والإستجابة لها، وقد أدّت الى نتائج بعكس ما كان يبتغى من تلك الضغوط.

غياب الثقافة الديمقراطية

برغم وجود الحرية النسبية ونشاطات المجتمع المدني العامة، وكذلك بالرغم من استحداث بعض المؤسسات الرسمية المعنية بترويج الثقافة الوطنية والديمقراطية، فإن تطور الثقافة الديمقراطية لم يحظ بجهد كبير من السلطة والمجتمع المدني؛ وكان يفترض ان يرافق التحول السياسي، تحول ثقافي منهجي في عقول المواطنين وناشئتهم عبر التعليم والإعلام والنشاطات الثقافية العامة. الثقافة الديمقراطية والوطنية التي تنزع نحو قبول التعدد والتسامح والتنوع، لم تتطور بمقدار التطور والتوسع في مساحة حرية التعبير والحريات السياسية التي نشأت بسبب الإصلاحات. ويمكن القول بأن القوى السياسية كافة انشغلت بالممارسة السياسية، عن مهمة التثقيف الضرورية لمجتمع يخطو خطواته الأولى نحو الديمقراطية.