ترشيد الخطاب الحقوقي الرسمي

حسن موسى الشفيعي

رغم مضي سنوات طويلة على دخول البحرين معترك الإصلاح السياسي، والتعاطي مع مفاهيم وأجهزة ومؤسسات وشخصيات حقوق الإنسان، إلا أن الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي لازال يتخلله الكثير من الأخطاء، ما يرتدّ سلباً على سمعة البحرين، التي تعتمد خطاباً مستهلكاً لا يساعد على فهم الوضع فيها من الناحية السياسية والحقوقية، ولا على توضيح حقيقة أنها يجب أن تعتمد خطاباً جديداً يختلف عن فترة ما قبل الإصلاحات، ويتواءم مع المستجدات السياسية والحقوقية التي شهدتها البلاد خلال العقد الماضي.

وقد وقع عددٌ من المسؤولين في الآونة الأخيرة ـ ربما بسبب الأحداث المؤلمة، والصدمة التي رافقتها ـ في مطبّ استخدام خطاب يتناقض وجوهر المشروع الإصلاحي، ما سبّب لبساً في الفهم لدى متلقي هذا الخطاب، خاصة لدى المؤسسات الحقوقية الدولية. هذه المقالة تقرأ الخطاب الحقوقي الرسمي، وتقدم تقييماً له، بغية ترشيده، وليس المقصود هو التجريح أو النقد غير البنّاء، أو المجرّد من أي هدف.

المُخاطب/ المتلقّي

يظهر أن بعض المسؤولين، لا ينتبهون الى أنهم في تواصلهم مع المنظمات الحقوقية الدولية، وأجهزة الأمم المتحدة المهتمة بحقوق الإنسان، إنمّا يخاطبون ذهنيات وعقليات مختلفة تتطلّب اعتماد خطاب مختلف في الصياغة ـ وليس المحتوى، وإلا صار لدينا خطابان حقوقيان مختلفان ـ عما لو كانوا يتحدثون الى الجمهور العربي مثلاً أو المحلي. الذين يتعاطون مع حقوق الإنسان بين المؤسسات والأجهزة الحقوقية الدولية علميّون، ومهنيّون، ويميّزون بين (الإعلام) و (الإعلان/ الدعاية)، حيث يقع الخطاب الرسمي في هذه المشكلة أثناء الحوارات والتصريحات، وربما البيانات أيضاً.

والذهنية الحقوقية العلمية تميّز بين الخطاب (المتوازن) من عدمه. فالخطاب المتوازن له سمات واضحة، من بينها:

1 ـ أنه يكشف عن الواقع بكل جوانبه، الإيجابية والسلبية. فلا يكفي أن تذكر المنجزات، بدون أن تذكر الأخطاء والسلبيات. فحين يتحدث المسؤول عن الجوانب المختلفة، يشعر المُخاطب/ المتلقّي بأن الدولة التي يمثلها هذا المسؤول، صادقة في توجهها لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، وأنه لا يمارس عملاً دعائياً بعبارات مفخّمة، وإنما يذكر الحقائق كأقرب ما تكون على أرض الواقع.

2 ـ أنه يكشف عن التحديات والعقبات التي تواجه الدولة في جوانب حقوق الإنسان، ويبيّن أسبابها المحتملة، كما يوضح الجوانب العلاجية المحتملة أيضاً؛ والخطط التي من المفترض أن تقوم بها الحكومة لإصلاح الأخطاء، وللتغلب على هذه العقبات والتحديات، وجوانب القصور.

مثل هذا الخطاب المتوازن، هو الذي يقنع المتلقي بالجدية، وهو الذي يخدم في النهاية سمعة البحرين ويحفظ لها مكانتها، ويعزز من مصداقيتها.

سمات الخطاب الرسمي

يمكن توضيح جوانب القصور في الخطاب الرسمي الحقوقي في التالي:

خطاب متناقض: حيث يُستخدم خطابان ولغتان مختلفتان، واحدة للداخل باللغة العربية، وأخرى للخارج بالإنجليزية. في الداخل يميل الخطاب الى اتخاذ صفة هجومية، والى التعرّض بالتنقيص والإتهام للمنظمات الحقوقية الدولية. أما في الخارج، فالخطاب يميل الى استخدام لغة موادعة، تؤكد على الإستعداد للتعاون مع المنظمات الحقوقية واجهزة الأمم المتحدة، وتبادل المعلومات معها، والقيام بأنشطة مشتركة بما يعزز حقوق الإنسان في البحرين. ويعترف خطاب الخارج بوجود تقصير وحدوث أخطاء أحياناً، وبقصور في أحيان أخرى، ويعد بإصلاح ذلك، وما أشبه.

لكن من يستخدم هكذا خطابين مختلفين، لا يلتفت الى حقيقة أن الخطاب الداخلي مكشوف على الخارج؛ فكل المؤسسات الحقوقية الدولية تتابع الصحافة المحلية، وما يُنشر من تصريحات للمسؤولين، كما تتابع القنوات التلفزيونية، ووسائل التواصل الإجتماعي، ولديها الخبراء العرب ليقوموا بتلك المتابعة. وهنا سرعان ما تعتقد تلك المؤسسات بأن ليس هناك ـ في البحرين ـ وبسبب التناقض في الخطاب، جديّة كافية لدى المسؤولين في تطوير الوضع الحقوقي، وأن نظرة أولئك المسؤولين تجاهها لازالت سلبيّة، رغم وجود مشروع إصلاحي حقيقي.

تشعر المنظمات الحقوقية الدولية باندهاش شديد تجاه هذا الأمر: فمن كانت قد اجتمعت به بالأمس من المسؤولين، والذي كان يحدثهم بلغة رائعة، اعتمد خطاباً آخر، حين عاد الى بلده، يختلف كليّاً عما سمعته من قبل. ويبلغ الإندهاش ذروته، حين تؤلف القصص على لسان المنظمات الحقوقية الدولية، وأجهزة الأمم المتحدة، فيقال بأن هذه الجهة أو تلك اعترفت بأخطائها، وقصور فهمها، وأنه قد ردّ عليها، وتم إقناعها بجوانب القصور التي وقعت فيها، وما أشبه.

مثل هذا الخطاب يجب أن يتبدّل، وأن يكون جادّاً ومسؤولاً وذا مصداقية، وأن لا يقال للجمهور المحلي شيء، ويقال نقيضه في الخارج، لأن هذا ـ بصريح العبارة ـ مسيء لأشخاص المسؤولين، وللحكومة، ولسمعة البلاد بأكملها؛ فضلاً عن أن هذا الخطاب المتناقض لا حاجة لإعتماده أساساً؛ لأنه لا ضرر من توضيح الإيجابيات والإعتراف بالسلبيات. وحتى بمنطق الخسارة والربح، فإن الخسارة المتأتية من الإعتراف بالخطأ والتقصير والقصور، أقلّ بكثير من اعتماد خطابين متناقضين.

خطاب إتهامي؛ إحتجاجي؛ تبريري: والخطاب الرسمي، فوق هذا:

إتهامي: حيث يصرّ على وصم المنظمات الحقوقية بأنها منحازة ضدّ البحرين، وأن لديها أجندات خفيّة، وأنها مخترقة. بعض هذه الإتهامات تتكرر كثيراً في وسائل الإعلام المحلية، وقد وردت على لسان بعض المسؤولين. وهكذا إتهامات، والتمسّك الدائم بها، وتكرارها كوسيلة دفاعية، غير مفيد، وقد يفتح معركة مع المنظمات الحقوقية الدولية وأجهزة الأمم المتحدة. وقد بيّنا في العدد الماضي (مقالة: المنظمات الحقوقية والحكومات: المواجهة أم التعاون) ضرر اعتماد منهج الصدام، الذي لا ينتج عنه سوى استعداء تلك المؤسسات دون أية أفق لتغيير منهجها في التعاطي مع الوضع البحريني.

إحتجاجي، جدلي: كالقول: لماذا لا تدينون إسرائيل وأميركا؟ لماذا لا تنتقدون المعارضة؟ لماذا نحن وليس دولاً أخرى في المنطقة، لا مشروع اصلاحي لديها ولا حريات؟. معلوم أن هذه الدول مدانة من تلك المؤسسات الحقوقية، وينشر عنها الكثير من التقارير، بأكثر مما ينشر عن البحرين بأضعاف المرات. لقد أوضحنا، في هذا العدد (مقالة: بواعث قلق الدول الغربية من الأوضاع في البحرين) طبيعة الموقف الغربي وأسبابه، وهي تجيب على هذه الأسئلة، أو بعضها على الأقل. ولكن يقترح على المسؤولين في البحرين أن يتركوا هذا النوع من الخطابات، وأن ينظروا الى التقارير الحقوقية بتمعّن، فيصلحوا جوانب القصور المذكورة في تلك التقارير، ويردّوا على الأخطاء التي ترد فيها، بصورة واضحة وتعتمد الحقائق (وهو قلّما يحدث، للأسف). إن إصلاح الذات، وتطوير البلاد حقوقياً، أهم بكثير من المحاجّات، وتحميل الآخرين المسؤولية، وتنزيه الذات.

تبريرية: كالقول بأن جميع الخطوات الرسمية صحيحة وقانونية؛ أو توضيح أن الآخر (المعارضة) قد أخطأ هو فقط، وقام بأعمال تنتهك حقوق الإنسان (ونحن لا ننفي هذا). وفي بعض الأحيان، يكون هناك نفي وقوع بعض الأخطاء، بينما يتم تداول معلومات وافية عنها في وسائل التواصل الإجتماعي. وفي مرات عديدة، يعود المسؤولون فيعترفون بالخطأ، ويصححونه، لكن بعد أن وقع الضرر، وكان بالإمكان تلافي ذلك ابتداءً.

وفي أحيان قليلة، ينساق البعض في مساجلات طائفية مع مؤسسات حقوقية دولية، فتزيد من حجم الأضرار والإساءات. إن خطأ ممثل الدولة في هذا أكبر بكثير من خطأ المعارض والموالي الذي يستخدم الخطاب الطائفي. والسبب أن حكومة البحرين هي حكومة (للعامّة/ كل الشعب) وليس حكومة (الخاصة) وهي حريصة على النسيج الإجتماعي، ووحدة المواطنين وانسجامهم. والحكومات عامّة لها خطاب سياسي شامل متعالي على التمايزات المجتمعية والطائفية والقبلية والإثنية. لغة الأفراد والجماعات والمعارضات شيء. ولغة الدول والحكومات والمسؤولين شيء آخر. اذا استخدم المسؤول لغة الجمهور، أو جارى معارضين آخرين في خطابهم الطائفي، فإنه يهبط بمكانة الحكومة، ويعكس صورة سيئة عن أداء مؤسساتها.

هذا الخطاب إن جاء من مسؤول رسمي، فإنه يقلق الطرف الآخر المستمع في المنظمات الحقوقية أو حتى الجهات الدبلوماسية والسياسية، خاصة في عهد الإصلاح الذي يفترض أنه تجاوز بالمجتمع الخطاب الطائفي. وإن مثل هذا الخطاب يؤدي الى تحريض الطرف الآخر على استخدام نفس اللغة. والمسؤول هو الذي يفترض أن يضبط خطابه، ويؤخذ عليه أكثر مما يؤخذ على من هم خارج السلطة من الأفراد أو الجهات.

وكما نرفض ذكر الإنتماءات الطائفية في التقارير الحقوقية الدولية، خشية أن يؤدي ذلك الى تعزيز مشاعر الإنقسام في المجتمع البحريني، فإن الخطاب الحقوقي الدولي، لا يقبل من مسؤول في حكومة تمثل كل الشعب، هكذا نوع من الإنسياق غير المحمود في المساجلات الطائفية، من خلال أسئلة صحافيين تستدرج بعض المسؤولين الى استخدام اللغة الطائفية، أو من خلال الردّ على ما يُنشر في وسائل إعلام خارجية.

لماذا لم ينضج الخطاب الحقوقي الرسمي حتى الآن؟

يمكن إيراد جملة من الأسباب التي منعت تطور الخطاب الحقوقي الرسمي بالشكل الذي يتواءم مع النقلة النوعية في الوضع السياسي. هناك ابتداءً: ضعف في استيعاب واستخدام مفردات اللغة والخطاب الحقوقي (الأدب الحقوقي بشكل عام). الخطاب الحقوقي له سمات محددة، وله مرجعية خاصة به، يتحاكم اليها قانونياً واعلامياً وسياسياً. وهناك من جهة ثانية، ضعف في تدريب المسؤولين عن الشأن الحقوقي. فمع أن ورشاً عديدة قد أقيمت لهذا الغرض، إلا أن ذلك لم يكن كافياً حتى الآن. وكان منتظراً أن السنوات العشر، قد أنتجت كوادر متخصصة في الشأن الحقوقي، تدرك أبعاده، ولغته، وطريقة أدائه، وتأثيراته، وكيفية التعاطي مع المؤسسات الحقوقية الدولية بشأنه.

إن عدداً من المسؤولين الذين يتعاطون مع الشأن الحقوقي، لا دراية كافية لديهم بآلية عمل المؤسسات الحقوقية الدولية، ولا بالتشريعات والإتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان. لقد أصبح موضوع حقوق الإنسان، حقلاً من حقول المعرفة، وهو يتطور باستمرار، وتتداخل فيه كثير من العلوم، وبالتالي فرغم الجهود المبذولة لرفع كفاءة المسؤولين، لاتزال هناك حاجة لأن يكونوا أكثر تأهيلاً، وبذلاً للجهد المؤسسي والمهني لتطوير أوضاع حقوق الإنسان في البحرين.