حسن موسى الشفيعي

تحدّيات تواجه مسيرة الإصلاح وحقوق الإنسان

حسن موسى الشفيعي

مما لا شك فيه أن حقوق الإنسان في البحرين تطورت في مسارات عدّة، منذ بداية الإصلاحات عام 2000، هي بشكل مختصر كالتالي:

ـ تأسيس الجمعيات الحقوقية خاصة والمجتمع المدني بشكل عام (وصل عددها الى نحو 500).

ـ جرت مواءمة العديد من القوانين المحلية مع التزامات البحرين الدولية، وما وقعته من مواثيق واتفاقيات، والتي تزايدت في سنوات الإصلاح السياسي.

ـ توقفت الإعتقالات على خلفية الرأي السياسي وغيره.

ـ جرى تحديث القضاء وأجهزته ودعم استقلاليته.

ـ في مسار علاقة الدولة بالمنظمات الدولية، فإنه رغم النواقص، إلا أن هناك بعض التطور، وقد أفسح المجال لتلك المنظمات بالقيام بزيارات الى البحرين والإلتقاء مع المسؤولين وإقامة الفعاليات وورش العمل، وتأسيس أفرع إقليمية لها في البحرين.

ـ في مسار الإنتهاكات المتعلقة بالتعذيب والمعاملة المهينة، فإنه رغم عدم وجود سياسة منهجية في هذا الموضوع، إلا أن هناك مزاعم بسوء المعاملة يمكن وضعها في إطار التجاوزات الفردية، ولكنها بحاجة الى إجراءات إدارية توقفها نهائياً. مثل: الصرامة في تطبيق القانون على موظفي وزارة الداخلية؛ يسبقها إجراء تحقيقات نزيهة وشفافة.

ـ تطور مسار حقوق المرأة، وحدث تغيير جذري في رؤية الدولة لدور المرأة وتمكينها سياسياً، رغم وجود معوقات تعود الى الأعراف الإجتماعية. وهناك قانون جديد للأحوال الشخصية، تم إقراره من البرلمان في جانبه السنّي؛ وبقي الجانب الشيعي الذي ينتظر الإقرار.

ـ وبالطبع هناك مسار الصحافة وحرية التعبير، فهي واسعة، بالرغم من وجود قانون صحافة لا يرقى الى المعايير الدولية، وهناك مشروع قانون جديد يجري مناقشته في البرلمان لعلاج الثغرات في القانون الحالي.

ـ وفي مسار حرية التجمع السلمي والإنضمام لجمعيات، لا توجد قيود على ذلك.

ـ وأخيراً في مسار تأسيس هيئة وطنية لحقوق الإنسان، حيث صدر مرسوم ملكي بتأسيسها في نوفمبر 2009.

من كل هذا، يمكن الجزم، بأن أوضاع حقوق الإنسان في البحرين قد تغيّرت بشكل كبير في فترة الإصلاحات السياسية التي مضى عليها نحو عقد من الزمن. ولكن هناك الكثير من الشكاوى تطرحها المنظمات المحلية والدولية، في موضوعات مختلفة لها علاقة بالجانب الحقوقي. لكن ما تواجهه البحرين من تحديات هو أبعد من الجوانب الجزئية، وهي ناشئة من طبيعة أن الدولة ناشئة ديمقراطياً، نعتقد أن أهمها، ثلاثة تحديات:

التحدّي الأول: حلّ الملفات العالقة

وهي ملفات موروثة من الحقبة السابقة، وأهمها ملفان لازالا يؤثران على الوضع الأمني، وعلى مستوى الثقة بين الحكومة من جهة، والجمعيات الحقوقية والسياسية من جهة أخرى. هذان الملفان هما:

1/ ملف العدالة الإنتقالية؛ ويتعلق بإرث المرحلة السابقة، وكيفية التعاطي مع آثارها، من جهة ضمان عدم تكرار تلك المرحلة، وطي صفحتها بالتراضي. لقد حاولت الحكومة سابقاً ـ ولا بدّ من تكرار المحاولة مرة أخرى ـ حلّ هذه المشكلة من خلال تقديم تعويضات لضحايا تلك المرحلة، عبر لجنة التظلّم في الديوان الملكي، ثم عبر وزارة التنمية الإجتماعية؛ وقد نجحت الحكومة في تقديم التعويضات المادية للمتضررين وإعادتهم الى وظائفهم، واحتساب الضمان الإجتماعي والتقاعد بأثر رجعي. كما نجحت في متابعة معالجة المتضررين صحيّاً. ما تبقّى له علاقة مباشرة بأولئك الذين فقدوا حياتهم، وقد عوّق حلّ مسألتهم قوى سياسية متشددة، رفضت مقترحات اللجنة وعروض الحكومة، وأصرّت على استخدام الملف في صراعها السياسي.

أياً كانت الأسباب في تعويق الحلّ، فإن بقاء الملف مفتوحاً ليس في صالح التحوّل الديمقراطي والحقوقي، وعلى الأرجح فإن هذا الملف سيبقى حاضراً في كل المداولات السياسية والإعلامية المحلية والدولية، الى أن يتم طيّه بصورة مرضية. وعليه لا بدّ أن تنطلق مبادرة جديدة من الحكومة، باعتبارها المعني المباشر، عبر تشكيل لجنة من الأطراف المعنية لإغلاق هذا الملف نهائياً.

2/ ملف التمييز، ونقصد الطائفي منه، وفي بعده السياسي فحسب، أي في بعد المشاركة في جهاز الدولة العلوي، وفي الإنتفاع من الخدمات التي توفرها الدولة. وليست المشكلة موجودة أساساً في بعد ممارسة حرية التعبير الديني والعبادة، فهذه متوفرة ومحترمة؛ ولا في بعدها الإجتماعي ـ إلا بشكل محدود ـ فالإندماج الإجتماعي قائم ومتماسك، سواء على مستوى السكن المختلط، والزواج المختلط، والشراكات الإقتصادية، والمناشط الأخرى.

الحكومة تعترف ضمناً بوجود آثار للمشكلة، وتقول ـ وهو صحيح ـ بأنها جزء من الإرث الماضي الذي وقع على كاهل المشروع الإصلاحي السياسي. والحكومة تقوم اليوم بشيء من (التمييز الإيجابي) لصالح الشيعة، على المستويين الإداري والخدمي، تماشياً مع إصرار الملك الذي أعلن بأن مشروع الإصلاح السياسي جاء من أجل إعادة التوازن السياسي والإجتماعي. لقد عنى مشروع الإصلاحات تأمين أكبر قدر من الإستيعاب للفئات الإجتماعية التي كانت تعيش على هامش الحياة السياسية، وإدماجها في النظام السياسي عبر توفير فرص متساوية، وتمهيد أرضية المشاركة السياسية المتكافئة لمختلف الفئات.

لا شك أن (الإندماج السياسي) قد تعزّز في فترة الإصلاحات، وإن القدر المتأتى من التوازن السياسي، وليس المحاصصة السياسية، سيؤدي الى مزيد من الإندماج الإجتماعي، والوطني، وسيضعف الروح الطائفية التي يستشعر الجميع خطرها. إن إعادة التوازن السياسي والمجتمعي تركة ثقيلة بحاجة الى رفق وتدرّج في معالجتها. ولا يسع المرء إلا الدعوة الى مناقشتها بدون حرج وبروح وطنية وعقلانية، بدل أن يبقى النفس الطائفي كامناً في النفوس، بالشكل الذي يعيق انطلاق المجتمع والدولة في التقدم والبناء.

التحدّي الثاني ـ العنف والشغب

لم يُرض الإصلاح السياسي طموح كل القوى السياسية، بل معظمها، وقد انشقت فئة (سمّت نفسها فيما بعد بحركة حق) عن أكبر الأحزاب السياسية (جمعية الوفاق) عام 2006، ورأت الإنقلاب على كامل العملية السياسية وعلى النظام السياسي نفسه بهدف إلغائه وإسقاطه. ومنذئذ ظهر عنف وشغب منظمين في الشارع استمرا حتى الآن. الحكومة لم تستخدم حتى الآن كامل سلطاتها القانونية لمواجهة الشغب والعنف الذي أزهق بعض الأرواح، حفاظاً منها على توفير المناخ السياسي المناسب لتطور العملية السياسية الإنتخابية من جهة؛ ومن جهة أخرى، أملاً في استيعاب تلك القوى الرافضة؛ وقد سعى الملك بنفسه لتحقيق هذا الأمر، ولكن دونما نتيجة إيجابية.

الشغب والعنف يعدّان من أهم الإنتهاكات لحقوق الإنسان في البحرين، لما يسبباه من ضحايا وتدمير للممتلكات العامّة. وإن الجدل الحقوقي في البحرين اليوم، والمتعلّق بمزاعم الإنتهاكات والتعذيب، كلّها ناشئة من مفرزات ذلك العنف، ما يعني أن الشغب والعنف يمثلان المضخة المستمرة لانتهاك حقوق الإنسان، وآلة صناعة الجدل التي تستثير النقاش حول الموضوعات الحقوقية. ويلاحظ أن المنظمات الحقوقية الدولية التي تصدر التقارير والبيانات عن البحرين، لا تمتلك الصورة الكاملة عن الأوضاع المحلية في أبعادها السياسية والإجتماعية، كما أنها أصبحت أسيرة للجزئيات والمعلومات المغلوطة المسيّسة، التي توفّرها أطراف لها صفة المدافعين عن حقوق الإنسان، ولكنها مشاركة مع جهات سياسية متشددة في إشعال فتيل العنف في الشوارع.

لكن الحكومة إذا ما وصلت الى طريق مسدود، وبسبب ضغط الشارع والقوى السياسية الفاعلة، فإنها قد تلجأ الى تطبيق القانون بشكل حازم. بيد أن مواجهة العنف والشغب بحاجة الى عمل موازٍ، والى مبادرة خلاّقة تشرك فيها أطراف أهلية وقوى سياسية متمثلة في البرلمان، تساهم في احتوائه.

ومن المهم ملاحظة التشابك في الملفات السياسية والأمنية والحقوقية.. فمما لا شك فيه أن حل القضايا العالقة، التي ذكرت أعلاه، سيساهم بشكل كبير في إبتكار حلول لإحتواء كل أشكال التوتر والإحتقان، دونما خشية من تفاقم المخاطر التي قد تهدد الإستقرار الداخلي، أو تشتت الجهود الداعمة لمسيرة الإصلاح.

التحدّي الثالث ـ بناء الثقة

ونقصد به بناء الثقة بين الحكومة من جهة، وبين الجمعيات السياسية والمجتمع المدني بما فيه الحقوقي من جهة ثانية. فبالرغم من أن العملية السياسية مستمرة ـ وإن لم تحافظ على زخمها السابق ـ إلاّ أن تطور الوضع الحقوقي كما تطوّر النظام السياسي برمّته، رهين في الجزء الأكبر منه بالثقة التي تولّدت بين مختلف الأطياف في أعقاب البدء بالمشروع الإصلاحي للملك عام 2000. ماذا يعني عدم وجود ثقة كافية بين الأطراف الأهلية والسياسية والحكومية؟

ـ إنه يعني أن النظام السياسي يتقدّم بحذر بالغ في خطواته السياسية الإصلاحية، خشية أن تتسرّب السلطة، ليس الى شركاء حقيقيين يهمهم تطوير العملية السياسية، بل الى منافسين يمكن أن يتحولوا الى أعداء وينقلبوا على العملية السياسية برمتها. ومن هنا، لاحظنا أن مسيرة الإصلاحات بعد أن كانت راديكالية في بدايتها، أخذت تفقد زخمها وتميل الى المحافظة والحذر الشديد.

ـ وإنه يعني في المقابل عدم تعاون الجمعيات السياسية وحتى الحقوقية مع مشاريع الحكومة، والنظر اليها بريبة، وتفسيرها بغير الوجه الذي تتقصده، وكل ذلك نابع من خشية أن هناك أجندة خفية للحكومة تريد من خلالها إضعاف القوى السياسية أو السيطرة على الجمعيات الأهلية.

وبين تلكؤ الحكومة وتباطئها من جهة، والشكوك التي تراود المجتمع المدني والقوى السياسية وعدم تعاونها من جهة أخرى، تضعف الروح المبادرة، وتتعزز الشكوك، وتدخل البلاد في حقل مساومات مستحيلة بشأن العديد من القضايا، يصبح معها كل طرف محافظاً على أوراقه وعناصر قوته دون أن يزجّ بها في عمل مشترك يخدم الصالح العام.

يمكن القول بأن قدراً من الثقة قد ابتني خلال التحولات السياسية الإيجابية التي تمت خلال عقد من السنين. لكن الشكوك بين الحكومة والأطراف السياسية والحقوقية لازالت عائقاً للعمل المشترك، ومعطلاً لكثير من المشاريع السياسية والتنموية والإصلاحية حتى داخل قبّة البرلمان. لماذا حدث هذا؟

هناك أسباب عديدة: بعضها يرجع الى إرث الماضي، فاللاعبون السياسيون اليوم في الإطار الديمقراطي، هم أنفسهم الذين كانوا يتصارعون في الماضي، ورغم وجود حسن النيّة وتوافر مناخ سياسي ملائم لبناء الثقة، فإن قدراً من الخشية لازال يشكل هاجساً عند الطرفين، تغذّية في ذات الوقت الأخطاء من كليهما، بسبب حداثة التجربة السياسية في البناء والتعاون، ظهرت على شكل ممارسات أو تصريحات غير مسؤولة، أدّت الى وضع كوابح أمام الطرفين وحدّت من توسعة هامش الثقة بين الشركاء، وأعادت المخاوف القديمة أو بعضها الى الأذهان. وأخيراً، فإنّ ظهور التيار العنفي المتشدد الذي يعلن صراحة أنه ضدّ أصل العملية السياسية بل ضد النظام والعائلة الحاكمة، وتّر الأجواء، وزاد من القلق، وأضعف الثقة التي ابتنيت.

لا يمكن أن تأخذ عملية التحوّل السياسي مداها في البحرين بدون ثقة بين اللاعبين السياسيين. ولا يمكن تطوير حقوق الإنسان بدون مناخ تتوافر فيه الحدود المعقولة من الثقة. وبالنسبة للعاملين في الحقل الحقوقي بالذات، فإن سياسة تصيّد الأخطاء وتسييسها، دون الإعتراف بالمنجزات التي تحققت، أو التقليل من شأنها.. يضعف إمكانية التعاون مع الأجهزة الحكومية التي تبادل عدم الثقة بمثلها.

اللاعبون الأساسيون، من جميع الأطراف الرسمية والشعبية والحقوقية، يتحملون مسؤولية تعزيز الثقة بين بعضهم البعض، ويقع عليهم مسؤولية التصدّي لكلّ عوامل إضعاف الثقة بأيّ طرف كان؛ فالجميع منتفع من العملية السياسية الإصلاحية، وإن التشكيك في الآخر، خاصة النوايا، يعني أن هذا العملية ستصل الى الجمود والإنسداد.