البحرين: خطاب التحريض على العنف وأثره على انتهاكات حقوق الإنسان

لازالت البحرين تعيش أجواءً من العنف والشغب، وقلّما يمرّ أسبوع بدون حادث من نوع ما: (حرق إطارات السيارات وصناديق القمامة ووضعها في وسط الشوارع الرئيسية لإغلاقها، ومصادمات مع قوى الأمن، واستخدام القنابل الحارقة، والتعرّض للمتلكات العامة كالمولّدات الكهربائية وأعمدة الإضاءة، وما أشبه). وقد سبق أن تطوّر الأمر في بداية العام، الى حدّ مهاجمة سيارات الشرطة بقنابل المولوتوف، وسبب ذلك عدداً من الخسائر البشرية، حيث توفي شرطي حرقاً (في كرزكان)، كما توفي عامل أجنبي لذات السبب حين تمت مهاجمته في سيارته بقنبلة مولوتوف حارقة (حادثة المعامير)، فضلاً عن إصابة عدد غير قليل من المواطنين والمقيمين بجروح وحروق وبعضهم فقد نظره (حادثة بني جمرة).

الجيب الذي قضى فيه رجل الأمن حرقاً

أياً كانت خلفيات العنف السياسية والإجتماعية؛ فإنها في الإطار العام غير مبررة وغير مقبولة، خاصة في بلد يعيش مناخاً سياسياً منفتحاً كالبحرين، حيث العملية السياسية قائمة، وتشارك فيها أغلبية الشعب. ولكن ما تودّ هذه المقالة التعرّض له، هو مسألة (التحريض على العنف) والتي تورّطت فيها جهات سياسية وأخرى ترفع لواء الدفاع عن حقوق الإنسان (انظر خطاب عبدالهادي الخواجة، الرئيس السابق لمركز البحرين لحقوق الإنسان، وذلك بمناسبة المحرم، يناير 2009م، مثلاً).

خطاب التحريض على العنف، الآتي في معظمه من خارج الحدود، ليس مسؤولاً عن التوتر السياسي والإضطراب الأمني فحسب، ولكنه بدرجة أهم: مسؤول بدرجة كبيرة عن انتهاكات حقوق الإنسان، كونه محرّض على فعلها، كما أنه من جهة أخرى مساهم بشكل كبير في توفير المناخ للإنتهاكات الحاصلة، فضلاً عن أنه يعتبر واحداً من المعوقات الأساسية للنمو الطبيعي المفترض في مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية. وحول هذه النقطة الأخيرة بالذات، يمكننا ملاحظة كيف أن جهات وأفراد سياسيين بامتياز، أسسوا مكاتب تحت عنوان الدفاع عن حقوق المواطنين، في حين أنهم يمارسون عملاً سياسياً، وخطابهم الحقوقي لازال خطاباً سياسياً بحتاً. بل يمكننا ملاحظة أمر آخر، كيف أن التحريض السياسي جذب اليه مؤسسات حقوقية محليّة، في تحالف غريب من نوعه، إذ العادة أن يتحالف أصحاب الشأن الحقوقي، لا أن يتحالف المحرّض السياسي على العنف مع الحقوقي الذي يفترض فيه الدفاع عن مبادئ العدالة.

الخطاب التحريضي على العنف والشغب بحاجة الى تفكيك ومناقشة في غاياته ومفرداته، لا يسعنا هنا مناقشتها باستفاضة ولكن يكفينا هنا مجرد الإشارة إليها اعتماداً على بيان واحد نقدمه كنموذج للبيان التحريضي ومحتوياته العنفية. البيان الذي نقصده صادر عن (حركة أحرار البحرين) التي تتخذ من لندن مقرّاً، وقد حمل عنواناً صاعقاً يحمل شحنة من التحريض على العنف لا تحتمل اللبس: (شكراً شباب المولوتوف) وهو صادر في 12 أبريل 2009، أي بعد إعلان العفو الملكي عن 178 محتجزاً على خلفية المصادمات وأعمال الشغب.

1/ الخطاب التحريضي موجّه للشباب بالتحديد؛ فهم الذين يمتلكون روح المغامرة، وهم الأقل نضجاً وتفكيراً في مستقبلهم. والخطاب الموجه لهم يحوي شحنات من المديح، تفيد بأنهم قادرون على صنع المعجزات: (أنتم عنوان الفخر، والعزّة، والكرامة والحرية.. أنتم سادة القوم.. لولا سواعدكم ما اهتزت عروش الظالمين.. عزائمكم لا يفلها الحديد.. علمتمونا دروساً.. أثبتم أن النظام أوهى من بيت العنكبوت.. الأشاوس.. أبطال الميدان.. الخ). وبمقدار ما إن الشباب المعنيين بالخطاب أدوات في تنفيذ العنف والشغب، فإنهم أيضاً ضحاياه.

الشغب والعنف: اعتداء على حقوق الآخرين

2/ الخطاب التحريضي على العنف يحوي أوصافاً للعدو (أياً كان حاكماً أو جهة منافسة) غاية في البشاعة، ما يجعل من مواجهة ذلك العدو أمراً حسناً، بل واجباً على كل شاب. من أوصاف العدو التي وردت في البيان: (الجلادون، المعذبون، القتلة، المحتلّون، البغيض، الظالمون، الإستئصاليون، الطغاة، الفجّار). أُناس هذه صفاتهم، لا بدّ من مقاومتهم، رغم الصعاب. ولا بدّ للخطاب التحريضي من التبشير بأمل ما آتٍ، فالنصر قادم، عبر إزالة النظام: (بطولاتكم كسرت شوكة المحتلين.. سواعدكم هزّت عروش الظالمين.. بضعة سواعد تهتف قادرة على إضعاف النظام وإسقاطه). لقد انكشف ـ حسب الخطاب التحريضي (مرتكبو الجرائم ضد الإنسانية.. وفي مقدمتهم الطاغية الكبير ووزراؤه ومعذبوه.. [لقد] مهدتم لمحاكمات دولية مقبلة لازلام النظام، على غرار ما حدث للنازيين بعد الحرب العالمية الثانية، وأن محاكم نورمبرغ سوف تتكرر بعون الله).

3/ والخطاب التحريضي مباشر، وإلاّ فقد تأثيره على جمهوره من الشباب، لذا تصدم القارئ عبارات التحريض والثناء على العنف ومرتكبيه، مثل: (شكراً لكم يا شباب السلندرات وحرائق الإطارات.. شكرا لكم، فلولا الحرائق الاحتجاجية والسلندرات ما جاءت [الصحف والوكالات] للتعرف على ظلامة شعبنا.. لا مهادنة مع اعداء الله والشعب والانسانية أبداً.. [والوضع سـ] ينتقل لمرحلة أكثر تطوراً وأشدّ إصراراً على مواجهة الظلم والظالمين، والتصدي للاحتلال والمحتلين، والاستعداد لمنازلات أكثر حسماً.. إن خياركم بالنزول الى الشوارع هو الذي كسر ظهر الأعداء، وأن من ينزل الى الميدان هو صاحب القرار.. الموقف الصحيح [تجاه رجال الحكم] صفعهم على أفواههم، والبصق في وجوههم)!

4/ والقائمون على الخطاب التحريضي رغم مباشرته وحدّته ووضوحه، يخشون من اتهامهم بأنهم محرضون على العنف، ولذا نجد في البيان، الذي ننقل نصوصاً منه، إشارات الى (الحركة السلميّة) وكأنّ كل ما قيل من تحريض لا يعدو تعبيراً سلمياً عن الرأي، وكأنه لا يتعارض مع كل معايير ومواثيق حقوق الإنسان: (شكراً لكم يا شباب السلندرات وحرائق الاطارات، على التزامكم بحركتكم السلمية، التي أبهرتم بها شعوب العالم)! غرض المحرّضين هنا هو إقناع الشباب المعنيين بالخطاب العنفي وأنهم إنما يمارسون عملاً مقبولاً وشرعياً ومتفهماً لدى كل العالم، لا تشذّ في قبوله إلاّ حكومة البحرين: (شكراً لكم فقد رفضتم التخلّي عن وسائل الضغط السلمية التي مارستموها).

5/ والخطاب التحريضي، يرى أن العنف والشغب من (الأساليب الناجعة) في مقاومة الحكومة (المحتلة). وهل جزاء المحتلّ إلا المواجهة بالدم، وإعلان الحرب، والطرد من البلاد؟! بل أن العنف يرقى لأن يكون الوسيلة الوحيدة أمام الشباب في تغيير واقعهم، الذي يصوّره بيان حركة أحرار البحرين بشكل بائس ومشوّه. والخطاب التحريضي فوق هذا، يحرّض على الناصحين والمعترضين على العنف والشغب، وحتى على الوسطاء الذين يبحثون عن نقطة تلاق، فكل هؤلاء مجرد أدوات بيد النظام: (لم تثن عزائمكم تلك اللجان التي وصفت بالمجتمعية التي هدف أصحابها حماية النظام بإخماد صوتكم، ولو تطلّب ذلك استصدار الفتاوى).

6/ والخطاب التحريضي يعتمد أيضاً اللغة الدينية في شرعنة نفسه ونشاط القائمين عليه ليس أمام الحكومة فقط، بل وأمام مخالفيه أيضاً، سياسيين كانوا أو حقوقيين، فيستخدم الآية الكريمة، ويستخدم المفردات الدينية أو العبارات التي لها ظلال دينية، أو يسقط التاريخ على الواقع فالنظام يستهدف (دين الله، وقيم المجتمع، وثقافة البلد).. وممارسو العنف مجاهدون مضحون في سبيل الله، وهم يتصدون (لفرعون وملأه) وما يقدمون عليه من عمل سينالون عليه الأجر والثواب (كل ذلك في ميزان أعمالكم يوم القيامة).

إن البيانات والخطابات التحريضية الكثيرة المماثلة لهذا الخطاب في النهج، ومن أيّ جهة جاءت، حقوقية أو سياسية، تتضمن مخالفات صريحة لمعايير حقوق الإنسان، ولمبادئ العدالة، ذلك أنها تحوي تشجيعاً على ممارسة العنف الذي يودي بقتل الآخر أو إيذاءه، كما ويحوي تبريراً واضحاً لدعاة العنف وشرعنة وتمجيد ما يقومون به، كما وتحوي تعديات غير مقبولة على حقوق آخرين ـ بغض النظر عمّن يكونوا ـ تمّ الطعن فيهم، والتشهير بهم، ووصمهم بأوصاف غير لائقة وجارحة، وغير ذات صدقية.

مسؤولية الناشطين عن حقوق الإنسان في البحرين تتحدد في النأي بأنفسهم عن هكذا خطاب مخالف لروح العدالة، وإدانته كما إدانة المتورطين فيه. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن على الناشطين الحقوقيين مراقبة سير العدالة، فيما يتعلق بالمحتجزين على خلفية ممارسة العنف والشغب، خاصة وأن هناك محتجزين على خلفية مقتل شرطي وعامل أجنبي تنتظر محاكمتهم من قبل القضاء. فأياً كانت التهم الموجّه إلى هؤلاء، من إزهاق الأرواح والإضرار بالممتلكات، فإن من الضروري تطبيق معايير حقوق الإنسان فيما يتعلق بأوضاع المحتجزين، وفحص أدلّة الإدانة، وتوفير المحامين، وعلنيّة المحاكمات، وغيرها من معايير المحاكمة العادلة.