الحريات الدينية والثوابت الوطنية في البحرين

أن تعارض الحكومة من داخل السيستم القائم، فذلك أمرٌ مشروع. وتوجد القنوات القانونية التي تنظّم هذا العمل السياسي.

وأن تختلف معها في سياساتها ومواقفها وتنتقدها، فهذا مشروع أيضاً.

المواجهة والصدام يقعان في أغلب الأحيان حينما يتم الخروج على ما تم التعارف على تسميته بـ (الثوابت) السياسية.

والمقصود هنا هي تلك الثوابت المتسالم عليها: بقاء نظام الحكم؛ الحفاظ على الوحدة الوطنية؛ حماية التنوّع الديني والمذهبي؛ رفض العنف كمنهج في التغيير والعمل السياسي.

ورغم أن الأغلبية الشعبية الساحقة في البحرين تؤمن بهذه الثوابت الوطنية، إلا أن بعض الأفرقاء السياسيين ـ وليس القواعد الشعبية ـ سببت إرباكاً سياسياً واجتماعياً وأمنياً كبيراً بسبب الخروج على هذه الثوابت، إمّا بوعي وتخطيط، أو استرسالاً في الصراع السياسي.

لهذا وجدنا مثلاً أن هناك من يريد تغيير النظام السياسي وإعلان جمهورية، وهذا خروج على الثوابت. مع أنه لا يُعلم بالدقّة كيف سيكون هذا التغيير، هل هو بالعنف أم بغيره.

ووجدنا أيضاً محاولات متعمدة لتمزيق اللحمة الوطنية على أسس طائفية؛ خدمة للصراع السياسي، حيث تم تجييش المذهب والطائفة لصالح المشروع السياسي، ما أدّى فعلاً الى تمزّق في النسيج الإجتماعي لم تشهده البحرين في تاريخها.

ووجدنا أيضاً لدى البعض خروجاً على ثوابت السلمية، وميلاً لاستخدام العنف السياسي، رغم وجود قنوات ـ مهما قيل عن ضيقها ـ واضحة للعمل السياسي، كالأحزاب والإنتخابات والمجتمع المدني ووجود صحافة واعلام وحرية تجمع وغيره.

بقي ثابت حماية التنوّع الديني والمذهبي في البحرين، وهو الذي جعل البحرين منارة بين دول المنطقة. الا ان هناك ايضاً من يسعى لضرب هذا الثابت، بحجج سياسية ودينية. نقول هذا، ونحن قد شهدنا للتوّ احتفالات شعبية ورسمية بعيد الدوالي، كما شهدنا قبل ذلك احتفالات عاشوراء، وسنشهد قريباً احتفالات عيد الميلاد، وبعدها احتفالات بالمولد النبوي الشريف.

هناك بين القيادات الشعبية من لا يقدّر قيمة بناء دولة، ولا أهمية وجود دولة في تنظيم حياة المواطنين بالأساليب العصرية. ولربما يعود هذا الى مشكلة ثقافية بالأساس.

قبيل استقلال البحرين: المغفور له الشيخ عيسى أمير البحرين
في لقاء مع مرجع الشيعة في النجف المرحوم السيد محسن الحكيم

فـ (الدولة) كائن غير محترم في الثقافة العربية.

و(الدولة) في الثقافة العربية تعني (التغيّر) وليس (الثبات) كما في الثقافة السياسية المعاصرة.

والدولة في المخيال الشعبي العربي نقيض للحرية، خاصة لدى القبائل التي تريد أن تجول بدون قيود الحدود والجوازات والهويات.

وممتلكات الدولة أيضاً ليست موضع احترام لدى العربي عامة، فهو وإن قدّر الملكيّة الفردية، ورفض انتهاكها او انتقاصها، فإنه لا يحترم ملكية الدولة، ولو أُتيحت له الفرصة، فلربما قام بالإعتداء على تلك الملكية ونهبها.

لهذا، يعاني العرب مشاكل في بلدانهم من جهة بناء دول حقيقية تستقطب الإحترام والمكانة، ويرى فيها المواطن ذاته، بحيث يرفض انتقاصها أو إضعافها أو الإعتداء على ممتلكاتها (المال العام).

ما يراه العربي هو (تغوّل) الدولة، واعتداء على حريمه الخاص، وتقييد لحرياته في السفر والإنطلاق والتعبير.

وحتى (الدولة الريعية) لم تسلم هي الأخرى من اعتداء أبنائها على ممتلكاتها، أو تخريبها حتى، كما يحدث أحياناً للمنتزهات، والحمامات العمومية، فضلاً عن النهب للمال العام، وازدياد حدّة الفساد، الأمر الذي يبقي الدولة (كائناً مستباحاً)، في ظل السلم كما في ظل التوتر السياسي، حيث تكون الممتلكات العامة في قائمة الإستهداف بالنهب أو الحرق أو التخريب.

(مشروعية الدولة) أي حقها في السيادة على أرضها وشعبها، مسألة لم تترسخ في الوجدان الشعبي العربي، بالنظر الى تسلطيتها وعدم ديمقراطيتها، فضلاً عن فشلها في تحقيق أهداف مواطنيها وتطلعاتهم.

وفي البحرين حين جرت مراجعة لعلاقة الدولة بالمجتمع، وبدأ عهد الإصلاحات، كان يفترض أن تتغير النظرة السلبية تجاه الدولة، وهي قد تغيّرت فعلاً لدى مجاميع غير قليلة، خاصة في الوسط الشيعي. لكن مشكلة الشيعة بالذات لها جذور تاريخية لا تزال في بعض الأحيان راسخة.

الرؤية الشيعية القديمة تقول بأن أنظمة الحكم مغتصبة لمقام السلطة (غصبيّة الدولة). وفي القرن الرابع الهجري تحلّل فقهاء الشيعة قليلاً من ضغوط (العمل مع السلطان الجائر) كما في رسالة السيد المرتضى علم الهدى، ثم جاء الشيخ الكركي في القرن العاشر الميلادي، فأجاز الدخول في الدولة والعمل مع السلطان، وكسر موضوع (غصبيّة الدولة) بنحو كبير.

جلالة الملك يلتقي الهيئة العامة للمواكب الحسينيّة

وفي نهاية القرن الماضي (العشرين) تطورت النظرة الشيعية الى الدولة ومشروعيتها، في حال سارت باتجاه شوروي انتخابي، يرضي الجمهور عنها، فإذا ما تمّ ذلك، أُمكن الدخول فيها والعمل في أجهزتها، وبالتالي لم تعد النظرة الى الدولة كـ (كيان غريب) يقترف المرء الآثام في حال تعاطى معه أو اشترك فيه.

وفي البحرين، يتبيّن أن الشيعة اليوم ـ عدا قلّة منهم ـ لا يرون في أنفسهم أعداءً للدولة، ولا هم يرون أنفسهم بعيدين عن حكمها، ولا بإمكانهم مقاومة إغراء المشاركة في مؤسساتها والتأثير في قراراتها بما يخدم الصالح العام، مادامت الفسحة الديمقراطية قائمة.

لكن لاتزال هناك قلّة، تستدعي المواقف القديمة، وإرث الفقه الماضي الذي تخلّى عنه عموم الشيعة، لتسقطها لصالح مواقف سياسية آنيّة على نظام الحكم في البحرين؛ بحيث أخذت تلك الفئات بالترويج الى أن الدولة غير شرعية ـ وليس نظام الحكم فقط ـ لا تجوز طاعتها في قوانينها ولا احترام أملاكها، بل يجوز الإعتداء على الممتلكات العامة بالتخريب والنهب، كما يجوز استخدام العنف ضدّها، والعمل على تغيير النظام السياسي فيها. زد على ذلك، لا يجوز العمل مع الدولة، أو تقلّد المناصب ولا التعاطي مع مسؤولي الدولة، بل الواجب مقاطعتهم، كما قرأنا في بيانات التشدّد السياسي.

لكن الحقيقة تقول أنه لا يمكن إعادة الشيعة في البحرين الى الوراء، لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية السياسية.

الدولة في البحرين هي دولة الجميع، وليست (دولة الخاصة)، وقد ساهم الشيعة مع بقية أبناء الوطن في بنائها، وصوتوا على استقلالها عام 1971، وعلى ميثاقها عام 2001، وشاركوا في العملية السياسية، وبالتالي فإن الفاصلة التي يريدها دعاة التشدّد ليس فقط تعتمد فكراً بالياً تجاوزه الشيعة، بل إن تعميقها يعني أيضاً إضعافهم وتهميش أنفسهم، كما إضعاف وطنهم وتنكيد عيشهم، وهذا ما لا يفعله الواعون والحريصون على مصالح شعبهم.

هذا المسار الفكري الذي لا يتمتع والحمد لله بشعبية، لو نجح، فهو يعني الخروج على الثوابت الأربعة التي أشرنا اليها في بداية المقالة. وهو يعني فتح الباب على مصراعيه في الصراع ليس فقط بين الشيعة والنظام السياسي، بل وأيضاً بين الشيعة والسنّة، ويعني استخدام العنف، والانتهاء بإشعال حرب أهلية.

مسيرة عاشوراء في البحرين هذا العام

في احتفالات عاشوراء الماضية، حدثت بعض التجاوزات، فأراد البعض استخدام ذلك ضد نظام الحكم، وبما يزيد التأليب، وقام بالعزف على وتر أن ثابت حماية الحريات الدينية، لم يعد قائماً، وأن نظام الحكم لا يلتزم بذلك، وبالتالي أخذت هذه الأقلية الأمر الى حدود تعزيز المقاطعة والمواجهة مع النظام السياسي.

بالنسبة للحكومة كانت مناسبة عاشوراء كما هي في كل عام.

وزير الداخلية يستقبل أعضاء الهيئة العامة للمواكب الحسينية، قبل بدء عاشوراء، ويناقش معهم الإجراءات الأمنية والتنظيمية للمسيرات والمواكب.

ومن جانبه، كما في كل عام، وتعبيراً عن تعزيز الوحدة الوطنية في المناسبات الخاصة والدينية، يقوم جلالة الملك بالتبرع مالياً وعينياً لكل الحسينيات في البحرين، رغم كثرتها، وهي بالمئات.

وأيضاً وكما يحدث في كل عام، منذ زمن قديم، هناك اجازة رسمية لجميع البحرينيين، في يومي تاسوعاء وعاشوراء.

وأيضاً كما في كل عام، وبعد انتهاء مراسم شعائر عاشوراء، وهو ما حدث هذا العام أيضاً، استقبل الملك أعضاء الهيئة العامة للمواكب الحسينية، الذين شكروا جلالته على (إصدار التوجيهات السامية سنوياً، وعلى جري العادة، إلى كافة الوزارات والهيئات والجهات الحكومية المختلفة بأن ينعقد الموسم بما يليق بقدسيته، من خلال تقديم كافة الخدمات والتسهيلات الحكومية على أكمل وجه ودون أدنى تقصير، ومتابعته الشخصية لأن تسير كل الأمور الخدماتية والأمنية منها على أفضل وجه، وتذليل أي تحديات وصعوبات قد تكون عارضة).

وقالت الهيئة العامة للمواكب الحسينية بأن لقاء الملك بأعضائها يمثل (دليلاً على حرص واهتمام جلالته، واطمئنانا منه على كافة الأمور المتعلقة بإحياء فعليات ذكرى عاشوراء سنوياً، وهو خير دليل على إيمانه المطلق بالتعددية والتسامح والتعايش الديني بين مختلف أطياف المجتمع، والتي وثقها في دستور مملكة البحرين ضمن المشروع الإصلاحي).

ومن جانبه، حرص جلالة الملك، هذا العام، على تأكيد الثوابت الوطنية المتعلقة تحديداً بالحريات الدينية والتعايش المجتمعي، وهي رسالة موجهة لجميع البحرينيين.

الأول ـ أن المستوى الرفيع الذي وصلت اليه الحريات الدينية (خصوصية بحرينية عرفها المجتمع البحريني منذ عقود طويلة، وتعايشت عليها الأجيال، وتمثلت في حرصه على احترامه لتنوعه الديني والمذهبي، وحماية نسيجه الاجتماعي ولحمته الوطنية).

الثاني ـ أن الحريات الدينية تشمل الجميع: المقيم والمواطن، وكل الأديان؛ حيث أعرب جلالته عن فخره بما (تنعم به البحرين من حرية كبيرة على صعيد ممارسة الشعائر الدينية، دون أي شعور بفرقة أو تمييز).

الثالث ـ ان الحرية الدينية تأتي تحت سقف ومظلّة الوحدة الوطنية؛ وان المناسبات الدينية الخاصة، تفتح مجالاً للتعاون والألفة، وليس للشقاق والفرقة، حيث أكد جلالة الملك على (خصوصية هذه المناسبات، وترسيخ مبادئ التعاون والإخاء بين جميع أبناء مملكة البحرين، تحت راية وحدتهم الوطنية، وقيمهم الإسلامية).

وهكذا، فالحريات الدينية حقيقة تاريخية في البحرين، ولم تكن وليدة اليوم، وإن الذين يريدون التعرّض لأيٍّ من الثوابت الوطنية الأربعة: (نظام الحكم، الحفاظ على الوحدة الوطنية، حماية التنوّع الديني والمذهبي؛ رفض العنف كمنهج في التغيير والعمل السياسي)؛ إنما يقودون البلاد الى الدمار، ويجب ان يؤخذ على أيدي من يعبث بهذه الثوابت، التي هي بمثابة أعمدة تقوم عليها مصالح الشعب ومؤسساته الوطنية.