الخطاب الطائفي وإعلام الأزمة

الإعلام يمكن أن يكون محرّضاً للفتنة السياسية والإجتماعية، ويمكن أن يكون أداة محورية في تهدئة الخلافات والمشاكل والصراعات. وقد أُخذ على الإعلام الموالي والمعارض في البحرين مساهمته الكبيرة في توتير الوضع السياسي، وإحداث الشروخ الإجتماعية ـ بحسب تقرير بسيوني، الذي أكد في توصياته على ضرورة توخي الحيادية والموضوعية وإفساح المجال للرأي الآخر.

وفي اكتوبر الماضي، صدر تقرير من الخارجية البريطانية يقيم فيه الوضع بالقول: (ما زلنا قلقين من العبارات الطائفية التي تستخدم في وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة والمعارضة على حدٍّ سواء في البحرين. وسنواصل حث السلطات على احترام المعايير الأخلاقية والمهنية لتجنب التعصب والتحريض على الكراهية والعنف).

مما لا شك فيه ان لغة التحريض والطائفية انخفضت كثيراً عن معدلاتها السابقة، لكنها لم تنته، ولازال لها أثرها في تحشيد الجمهور على ضفتي الصراع السياسي. إذ لازال هناك إعلامان منفصلان للموالاة والمعارضة (ان صح التعبير). إعلام المعارضة يتخذ من الفضاء الإلكتروني موقعه الأساس، ولا يفيد معه الحجب، وله جمهوره الخاص به الذي ينطلق بحريّة غير منضبطة في التعبير عن نفسه، وهو غير متواصل مع اعلام الآخر، ولا يريد أن يستمع أو يقرأ للرأي الآخر، كما أنه يرفض المشاركة كتابة او ظهوراً في قنوات وصحافة الآخر.

وفي المقابل هناك إعلام موجّه ويعبّر في الجملة عن فئة، وله رأي موحد تجاه القضايا الكبرى، لا يستطيع اختراق جمهور الآخر او التأثير في قناعاته السياسية، بعد أن تطاولت جدران الحواجز الطائفية وتضاربت المواقف السياسية بحدّة.

وهكذا، تفتقد البحرين الى إعلام وسطي بديل، قادر على جذب الإتجاهين ليتحاورا ويناقشا القضايا الوطنية في مساحة قوامها العقل والتأنّي والمصالح المشتركة. فالإعلام الخاص أحادي الرأي لا يخاطب عموم الشعب، ولأنه كذلك فإن مساحة التعدّي على الآخر متاحة بدون محاسبة وبدون ضوابط. أما الإعلام الوسطي، فقائم على أساس عرض وجهتي النظر، ويشارك فيه الطرفان، وغالباً ما يحاذر أصحاب الرؤى السياسية المختلفة من انتهاج الراديكالية والتطرف، لأن صوتهم ليس موجهاً لمحازيبهم فحسب، بل الى مجموع الشعب.

الآن هناك تصنيف واضح لكل وسائل الإعلام ضمن خانتي: الموالاة والمعارضة؛ وكلاهما قد يستميتان في التعريض بالآخر، والتشهير به، وتصيّد أخطائه، فهذا ما يريده جمهوره الذي لا يقبل أن يرى تقييماً عقلانياً لوجهة نظر الآخر، ومخاوفه وتطلعاته وطموحاته. في الإعلام الفئوي لا توجد إلا (الأنا والذات المتضخمة) ولا يحضر فيه الآخر بهواجسه وهمومه وقلقه ورؤيته. ولهذا يتشبّع الجمهور برؤى أحادية، وبالإشاعات، وبالتصويرات النمطية للآخر الذي تطلق عليه أقبح الصفات والأوصاف ويتهم بكل ما هو مسيء.

وهذا كلّه ينتج التحريض والكراهية والعنف في المجتمع، حتى وإن لم ترد هذه المفردات المباشرة، فكيف بها وهي تطفو واضحة على السطح بلا رقيب؟

العنف والكراهية والتحريض هي منتج أساس للرأي الواحد، والفكر الواحد، وتضخم الذات، وشيوع النمطية، وكلها متوافرة في الإعلامين الموالي والمعارض، بنسب متفاوتة.

كلا المعارضة والموالاة غير الرشيدة يربيان جمهورهما على رأي واحد، بحيث يستسخف كل منهما أي رأي يختلف معه؛ ولذا يواجهان صعوبات لاحقة في زحزحة جمهورهما عما تم تلقينه من مواقف وآراء صمّاء، وجد الطرفان الموالي والمعارض التراجع عنها. ان الأضرار التي يتسبب بها الإعلام الأحادي على صعيد تمزيق النسيج الوطني تحتاج الى سنين طويلة من العلاج؛ في حين أن السياسيين قد يستهويهم الخطاب الفئوي، التحريضي، الطائفي، لحشد الأتباع، لكن النتيجة النهائية ضرر على جميع الشعب.

البحرين بحاجة الى إعلام وسطي، فما هو موجود من أدوات ووسائل اعلامية لم تقنع الجمهور العام المنشقّ اجتماعيا وسياسياً بحياديتها واحترامها لمختلف الأطياف والتوجهات.

وتبقى مسؤولية الدولة في التخفيف من حالة الإستقطاب على مستوى الإعلام، وعلى مستوى بثّ الكراهية والتحريض ضد الآخر.

أولاً ـ ضبط الإعلام الرسمي ليكون معبراً وليصل الى كل المواطنين. وإذا ما تحوّل او انزلق ليكون معبّراً عن رأي شريحة واحدة، فإنه يضرّ بالدولة قبل غيرها. كيف؟ باختصار: حينها لا تستطيع الدولة باعلامها التأثير في شريحة معتبرة من مواطنيها. وهذا يمثل ضرراً بالغاً بها، لأنه يجعل تلك الشريحة عرضة لإعلام آخر داخلي وخارجي مضادّ لها. أي دولة تكون أدواتها الإعلامية غير مقنعة من جهة التعبير عن هموم شعبها، او تضيق فيها مساحة الرأي، فإن تلك الأدوات تتعطّل، ويبحث مواطنوها عن فضاءات تعبير أخرى.

ثانياً ـ على صعيد آخر، قد تستطيع الدولة ضبط إعلامها الرسمي الخاص، وتمنع من انخراطه في معمعة الصراع الاجتماعي الحادّ. لكن هذا لا يكفي لحلّ المشكلة، فمسؤوليتها أن تمنع ظهور الرأي التحريضي الذي يبث الكراهية، وتعاقب عليه. قد تجد صعوبة في مواجهة بعض اعلام المعارضة وغيرها الذي يعتمد الفضاء الإلكتروني مما لا يقع تحت سيطرتها، ولا تمتلك الأدوات لملاحقة مثيري الفتن الطائفية. لكن الدولة تستطيع بالقطع أن تضبط الإعلام المحلي الأهلي تحت طائلة القانون.