على خلفية تقرير بسيوني:

نحو إعلام رشيد والمزيد من حرية التعبير

الإعلام في البحرين، وبشتى أشكاله الرسمي والأهلي والمعارض كان (ضحية) في الأحداث التي جرت منذ فبراير الماضي؛ كما كان (جلاداً) حين لعب دوراً في تأجيج الفتنة الطائفية وساهم في تضييق حرية التعبير، وانتهاك حقوق الصحفيين. لقد تعرّضت حرية التعبير للإنتقاص والرقابة المشددة خلال الأشهر الماضية؛ وبسبب الإستقطاب السياسي والطائفي الحادّ، تغلّبت نوازع الكراهية والتحريض والتشهير على لغة العقل والمنطق، وقد تعرض عدد من الصحفيين المحليين والأجانب للمضايقات والتهديدات والإعتقال والطرد من العمل والمعاملة المسيئة وغير ذلك، مما أفاض به تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق.

التجربة البحرينية في مجال حرية التعبير قبيل أحداث فبراير لم تكن سيئة البتة، وإن كانت تشوبها النواقص وبعض التجاوزات. وكان الجميع ينتظر قانوناً جديداً للإعلام يجري التوافق عليه بين الحكومة والبرلمان بحيث يزيد من هامش حرية التعبير، ويوسع على الشباب الذين تستهويهم مواقع التواصل الإجتماعي. لكن الأحداث الأخيرة جاءت وكأنها قد أفشلت التجربة قبل أن تنضج.

لا شك أن البحرين بحاجة الى التراجع عن كل الخطوات المقيّدة لحرية التعبير؛ ولا شك أنها بحاجة أكثر الى قانون جديد ومتطور للإعلام، والى أفق واسع ينظر الى مستقبل الحريات العامة في البحرين بما يتوافق مع الظرف السائد لما بعد تقرير بسيوني، ولما تراه البحرين لمستقبل أجيالها القادمة.

لدينا اليوم، وبدون مواربة، إعلامان: إعلام رسمي، وإعلام معارض، ولكل جمهوره ومحازبوه. كلا الإعلامين بصفتهما الحالية، يعكسان انشقاق المجتمع السياسي والطائفي. لقد تقلّصت مساحة تأثير الإعلام الرسمي بصورة واضحة بعد الأحداث، ذلك أن قسماً غير قليل من الجمهور لم يعد يثق فيه، ولا يستمع اليه. هنا يأتي التساؤل: ما فائدة إعلام بخطاب أحادي لا يستمع اليه ويهتم به إلا قسمٌ من الجمهور؟ كيف يمكن لدولة أن تقبل لنفسها أن تفرّط في جمهورها وشعبها بحيث لا يؤثر فيه لا إعلامها ولا خطابها السياسي؟ ومن المسؤول عن ذلك؟

النفور من الإعلام الرسمي كان نتيجة، وليس سبباً، لأخطاء عديدة وقع فيها الإعلام، وتخلّى فيها عن خطابه الوطني الجامع لكل الشرائح، وفشله في التعبير عن هموم ومصالح كل فئات المجتمع. ما جعله أشبه ما يكون بإعلام فئوي، شأنه شأن إعلام المعارضة أيضاً. والإعلام الفئوي هو إعلام تأطيري نمطي لا يستمع اليه إلا المحازبون، ولا يصدّقه إلا جمهوره الخاص. وإذا كان هذا غير مقبول من الإعلام المعارض، فإنه مرفوض تماماً أن يحسب على إعلام دولة تحترم مواطنيها، وترعى مشاكلهم، وتعبّر عن همومهم.

حين يفشل الإعلام الرسمي في هذا، فمن البديهي أن يبحث قسم من المجتمع عن إعلام آخر، سواء كان إعلام معارضة، أو إعلاماً خارجياً، يعتقد أنه أكثر مصداقية من الإعلام الرسمي، وأكثر اهتماماً في التعبير عنه.

بعض الآراء تقول بأن الإعلام الرسمي، خاصة التلفزيون، حاول مراراً استقطاب الصوت الآخر (المعارض) في بداية الأحداث، ولكن المعارضة رفضت المشاركة، ما أخلّ بالتوازن في عرض وجهات النظر، والتعبير عن الهموم الوطنية من زوايا مختلفة.

لكن رئيس هيئة شؤون الإعلام الشيخ فواز بن محمد آل خليفة، قال بأنه لم يتم منع المعارضين من الظهور في التلفزيون الحكومي، وأنه تمت دعوة أكثر من 300 شخصية شيعية من المعارضة والعاملين بالحكومة ونشطاء منظمات المجتمع المدني، للظهور في التلفزيون ولكن الجميع تهرب من ذلك إما بالرفض المباشر او بادعاء المرض (العربية نت، 25/11/2011).

أما تقرير بسيوني (فقرة 1640) فيقول بأن: (وسائل الإعلام البحرينية كانت منحازة الى حكومة البحرين. فست من الصحف اليومية السبع تعدّ صحفاً موالية للحكومة؛ كما تسيطر الدولة على خدمة البث الإعلامي. فاستمرار التقاعس في إعطاء جماعة المعارضة مجالاً كافياً في وسائل الإعلام الوطنية ينذر بمزيد من مخاطر الإنقسام السياسي والطائفي في البحرين. وعدم السماح باستخدام وسائل الإعلام الرئيسية في البلاد يخلق شيئاً من الإحباط داخل جماعات المعارضة، ويسفر عن لجوء هذه الجماعات الى وسائل الإعلام الأخرى، مثل وسائل الإعلام الاجتماعية. وقد يكون لهذا الأمر أثرٌ مزعزع للإستقرار، حيث أن وسائل الإعلام الإجتماعية تفتقر الى كل من الدقّة والمساءلة، حتى في الحالات القصوى حينما تنشر خطاباً مفعماً بالكراهية أو تحريضاً على العنف). وأوصى التقرير (الفقرة 1641) الحكومة بأن (تتبنّى نهجاً أكثر مرونة في ممارستها للرقابة؛ وأن تسمح للمعارضة بمجال أوسع في البث التلفزيوني والإذاعي ووسائل الإعلام المطبوعة).

الإعلام الرسمي يفترض أن يمثل الوطن بمختلف أطيافه، وبمختلف مشاربه وتوجهاته، ويعكس تنوّعه الثقافي والسياسي والطائفي والمذهبي. وإذا ما انحاز الى رأي واحد، أو منع طرفاً، فإن هذا الإعلام، لا يستطيع من الناحية العملية، تغييب الآراء الأخرى. وما يجهله البعض هو أننا في زمن لم يعد فيه ممكناً احتكار وسائل الإعلام، ولا صار مقبولاً أو ممكناً أن تختفي فيه وجهات النظر الأخرى. من لا يعرض سوى وجهة نظر واحدة، يعاقب نفسه، بحيث لا يجد من يستمع إليه إلا مؤيدو وجهة النظر تلك، وبذا يتحول الى الفئوية السياسية أو الطائفية او الحزبية، ويخرج عن إطار تمثيل الوطن وشرائحه المختلفين أساساً في الخلفية الثقافية والمواقف السياسية.

بظننا فإن الإعلام الرسمي كان ضحية لأخطائه هو. والصحف التي طردت صحافيين أكفاء لأسباب سياسية تعسفاً، خسرت هي الأخرى قراءها، كما خسرت تأثيرها في أصحاب الإتجاهات السياسية الأخرى (المعارضة مثلاً). وفوق هذا، خسر الوطن كفاءات وطاقات، وجدت لها طريقاً للعمل في وسائل اعلام دولية أخرى، وخسر الوطن ثانية بسبب تعميق الإنشقاق المجتمعي والسياسي. فإذا تمّ تحويل الإعلام الرسمي وحتى الأهلي الى إعلام خاص أو فئوي، قام الآخرون بتأسيس إعلام فئوي وخاص مقابله.

ترى ما لفائدة من منع شخص أو فئة من التعبير عن رأياه في الداخل الوطني وعبر القنوات الرسمية أو شبه الرسمية؛ في حين أن بإمكانها تأسيس صحيفة يومية أو فضائية في الخارج تخاطب من خلالها أنصارها؟ ترى ما هي الحكمة في تضييق حرية التعبير، في حين أن فضاء مواقع التواصل الإجتماعي قادر على أن يلعب دوراً بديلاً وبكفاءة عالية؟

ما نريد تأكيده هنا، هو أن البحرين بحاجة الى فسحة كبيرة من حرية التعبير، بحيث يجتمع أبناؤها جميعاً وعلى أرضها للتعبير عن مختلف آرائهم، وفق قانون عصري، نستطيع من خلاله لمّ شتات مجتمعنا، وجمعه على أهداف وطنيّة عليا، بعيداً عن الإعلام الفئوي الذي لا يزيد المجتمع إلا تفككاً، ولا يحقق لأحدٍ أية فائدة بعينها. فالموالاة والمعارضة تضرّرا معاً من التجربة الإعلامية في الشهور الماضية، ولا يوجد من رابح سوى الطائفية والتشرذم.

وما نأمله هنا هو: تصحيح الأوضاع السابقة، بإعادة الصحفيين المفصولين من أعمالهم؛ وفتح المجال لكل الآراء أن تعبر عن نفسها في الهواء الطلق، ذلك أن مقتل الخطاب الفئوي إنما يكمن في عرضه ونشره وتعريضه لضوء الشمس، لا حرمانه أو كتمانه، لأنه حينها يكتسب أهمية تفوق حجمه، فلا يتعرّض للنقد أو المساءلة او الترشيد.

أيضاً، وكما اقترحت لجنة تقصي الحقائق (الفقرة 1722/ح) فإنه يجب (إلغاء أو تخفيف كل الأحكام الصادرة بالإدانة على الأشخاص المتهمين بجرائم تتعلق بحرية التعبير السياسي والتي لا تتضمن تحريضاً على العنف، وإسقاط التهم التي لم يتمّ البتّ فيها ضدّهم). كذلك يجب إسقاط التهم عن كل أولئك الذين اعتقلوا أو تمت ادانتهم بسبب ممارستهم لحرية التعبير وحق ابداء الرأي والتجمع وتشكيل جمعيات (حسب الفقرة 1723/ ل).

كذلك ورد في الفقرة (1724) من تقرير بسيوني، توصية تتعلق بالتحريض الإعلامي، من بينها تخفيف الرقابة على وسائل الإعلام، والسماح للمعارضة باستخدام أكبر للبث التلفزيوني والإذاعي والإعلامي المقروء. ووضع معايير مهنية للإعلام تضمن تجنب إثارة الكراهية والعنف وعدم التسامح.

الملك أدرك هذه الإشكالية والقيود القانونية التي تكتنف حرية التعبير، وقد أشار في كلمته أمام لجنة تقصي الحقائق (23/11/2011) الى ذلك بالقول: (بادرنا بتقديم مقترحات لتعديل قوانيننا لتوفير حماية أكبر للحق الأصيل في حرية التعبير)، وهي تشمل تعديل بعض فقرات قانون العقوبات التي كانت تجرم بعض ممارسات حرية التعبير.

قبل أزمة فبراير، كان ينظر الى البحرين كواحة حريات تموج بالآراء المختلفة، وتتشابك فيها الأصوات الوطنية، وتتوسع فيها مجالات حرية التعبير. نحن اليوم بحاجة الى استكمال تلك التجربة والزيادة عليها، وطي صفحة الشهور الماضية التي أصبح فيها الإعلام (ضحيّة وجلاّداً) في نفس الوقت، وأصبح فيها المواطن أسير توجيه إعلامي أُحادي، سواء جاء من المعارضة أو من السلطة. شعب البحرين يستحق حرية تعبير أكبر، ويستحق إعلاماً وطنيّاً مخلصاً، بعيداً عن الإستقطاب الفئوي أو السياسي.