المنظمات الحقوقية والحكومات:

المواجهة أم التعاون؟

بين فترة وأخرى يطرح موضوع حقوق الإنسان ودور المنظمات الحقوقية الدولية كمادتين سياسيتين يُزعم استخدامهما ضد هذه الدولة أو تلك. وخلال الأشهر الماضية رأينا في العالم العربي بالذات نقداً رسمياً واسعاً يتعلق بأداء تلك المنظمات، حيث اتهمت باستخدام معايير مزدوجة، وان لها أجندات سياسية وغير ذلك. لقد ادخلت التحركات الشعبية والثورات في عدد من البلدان العربية موضوع حقوق الإنسان في صلب الصراع السياسي، وصار هنالك نقد يوجه للعديد من الدول العربية بأنها تمارس انتهاكات لحقوق الإنسان، وأنها تستخدم القوة المفرطة في مواجهة التظاهرات، وهو ما حدث في اليمن ومصر وليبيا وسوريا وتونس وغيرها. لكن الخطاب الرسمي العربي اعتاد على توجيه النقد للدول (الغربية خاصة) التي تستخدم في نقدها تعبيرات حقوق الإنسان، مشيراً الى أنها تستفيد من بيانات وتقارير المنظمات الحقوقية للتشويش وزرع البلبلة والتحريض أحياناً.

بديهي ان السلطات الرسمية العربية في مجملها لا ترحب بالمنظمات الحقوقية الدولية وتقاريرها وبياناتها حينما تتضمن نقداً لها (بعض الدول الغربية أيضاً تشعر بامتعاض من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية). وبغض النظر عن الإتهامات لتلك المنظمات ومدى صدقيتها، فإنه لا يمكن في هذا العصر تجاهلها، أو الإستخفاف بتأثيرها، أو محاولة ليّ ذراعها، أو تهديدها، أو غير ذلك. لماذا؟

لأن المنظمات الحقوقية الدولية قوّة حقيقية مؤثرة في عالم السياسة، ونشاطها صار جزءً لا يتجزّأ من الممارسة الفاعلة في ميدان السياسة الدولية، والقانون الدولي، وبالتالي فهي حقيقة قائمة، واستعداؤها لا يعدّ حكمة، ومصادمتها أمرٌ محكوم عليه بالفشل. بمعنى آخر: إن أي معركة مع هذه المنظمات هي معركة خاسرة على المستوى الشعبي وعلى المستوى الدولي القانوني والسياسي، أياً كانت الدولة التي تقوم بذلك، حتى لو كانت الولايات المتحدة الأميركية نفسها، والتي خسرت كثيراً من سمعتها حين حاولت تجاوز تلك المنظمات وتجاهل تقاريرها ونقدها.

موضوع حقوق الإنسان أصبح مادّة سياسية؛ كما أصبحت انتهاكات حقوق الإنسان مادّة للتدخل السياسي في شؤون الدول الأخرى؛ أي أن الموضوع الحقوقي شأنٌ عالمي يتجاوز الحدود، والشؤون الداخلية، ويمنح صكوك التدخل لحماية شعب ما من الإنتهاكات التي تمارس بحقّه. وفي مثل هذا الحال فإن الدعوات التي تظهر في الإعلام العربي الرسمي (والشعبي أحياناً) لمقاطعة المنظمات الحقوقية، أو التعريض بها، لا يغيّر من طريقة ومنهجية عمل تلك المنظمات، ولا يمنع تأثيرها المباشر على السياسات المحلية للدول، كما لا يهدم مصداقيتها على مستوى العالم، خاصة وأنه لا توجد دولة في العالم إلا وسيف النقد مسلط عليها، ومراقبتها قائمة من قبل منظمة من المنظمات الحقوقية أو أكثر.

إن تأثير المنظمات الحقوقية هو الذي يدفع باتجاه التعاون والتعاطي الإيجابي مع نقدها، والإستفادة من خبراتها وتجاربها وإمكانياتها إن أرادت تلك الدول ذلك. أما المقاطعة، وتجاهل الرسائل والبيانات والتقارير، واعتماد وسائل الهجوم، فيضرّ ولا ينفع. لا يصحح الوضع الداخلي لأية دولة تقوم بذلك، بل يساهم في تشويه سمعتها على الصعيد الدولي.

نعلم أن للمنظمات الدولية تأثير كبير في المساهمة في صياغة المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وهي المعاهدات التي تعتبر جزءً من القانون الدولي. ونعلم أن لها تأثير في وسائل الإعلام الدولية، من خلال شبكة علاقات واسعة تهتم بنشر تقاريرها وبياناتها وإعداد برامج خاصة تجاه دولة ما أو قضية ما.

فضلاً عن ذلك، فإن للمنظمات الحقوقية الدولية تأثير سياسي، وبالتحديد على السياسات الخارجية للعديد من الدول تجاه بلد معيّن أو قضية معيّنة. كما للمنظمات الدولية تأثير على مراكز البحث والدراسات والجامعات، حيث تأخذ تلك المؤسسات بتقارير المنظمات الدولية. ولا ننس أن موضوع حقوق الإنسان أصبح تخصصاً علمياً في المؤسسات الأكاديمية.

وللمنظمات تأثير على الجهات التشريعية كالبرلمانات الغربية بما فيها البرلمان الأوروبي والكونغرس الأميركي. فضلاً عن أن لها تأثير على عدد هائل من منظمات المجتمع المدني في كل دولة من دول العالم.

أضف الى ذلك، فإن للمنظمات الحقوقية الدولية تأثيرها على المؤسسات الدولية المالية كالبنك الدولي وصندوق الدولي، وعدد من البنوك والشركات الكبرى، من خلال تقييمها لأوضاع دولة ما سياسياً، وقياس مقدار استقرارها من خلال التزاماتها بحقوق الإنسان.

وفوق هذا، فإن للمنظمات الدولية ومطبوعاتها تأثير قوي على الرأي العام الغربي والعالمي عامّة، بما فيه الرأي العام العربي، الذي ينظر الى تقارير تلك المنظمات باحترام وتقدير، ويتفاعل معها ويساهم في حملاتها.

إذا كان هذا هو وضع المنظمات الحقوقية الدولية وقوتها، فما هي الحكمة من مصادمتها ومواجهتها؟

يبدو أن ليس هناك من خيار أمام دول العالم كافة إلا القبول بحقيقة وجود منظمات حقوق الإنسان الدولية، وإدراك تأثيرها على السياسة المحلية، وفهم كيفية عملها ومنهجها، وطرق التواصل معها، والتعاون البنّاء معها.

تستطيع بعض الدول في العالم تجاهل هذه المنظمات، وفعلاً هناك دول تقوم بذلك.. لكن هذه الدولمكروهة في العالم، وينظر اليها كدول استبدادية طاغية أو دول شمولية، وسمعتها في المحافل الدولية وكذلك في الإعلام الدولي.. سيئة. بل قد تكون ممارسات بعض تلك الدول تجاه شعوبها مبرراً لشنّ الحملات السياسية عليها، والتدخّل المباشر في شؤونها، ومحاولة الإطاحة بأنظمة الحكم فيها.

من الناحية النظرية، يفترض في الدول أن لا تخشى المنظمات الحقوقية الدولية إن كانت منشغلة بشأنها الداخلي من جهة العمل الجاد على تحسين أوضاع حقوق الإنسان، وإعطاء شعبها حقوقه، وإشراكه في صناعة القرار. هنا يصبح نقد المنظمات محدوداً، ولا يعني شيئاً كثيراً طالما أن شعب هذه الدولة أو تلك يدرك حقيقة أن حكومته لديها برنامج إصلاحي حقوقي ـ سياسي لتلبية تطلعات شعبها. هنا لا تعتبر تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية والإقليمية عنصر ضغط عليها، أو أداة تشويه لسمعتها، وتستطيع الإستفادة منها من خلال دراستها لتلك التقارير بإيجابية والنظر في توصياتها بموضوعية، وقد يظهر أن بعض ما في تلك التقارير من معلومات خاطئ، وبعضها صحيح، ومفيد أن تمّ لفت النظر اليه. وهنا أمام الدول أن تأخذ الجوانب الإيجابية، وتردّ على الثغرات الخاطئة في التقارير والبيانات بمهنية ورصانة.

من الأخطاء الشائعة في علاقات الدول مع المنظمات الحقوقية التالي:

1/ الإعتقاد بأن هذه المنظمات صنعها الغرب وأنها تستهدف دولاً معيّنة فحسب. يعبّر عن ذلك بالسؤال: لماذا تنتقدوننا ولا تنتقدوا دولا أخرى؟ ولا يعلم هؤلاء أنه لا توجد دول في العالم محصّنة ضدّ النقد والضغوط.

2/ الإعتقاد بأن هذه المنظمات ساذجة، ويمكن تمرير الوعود غير الصادقة عليها، أو أن أي معلومة تصلها سوف تعتمدها دون التدقيق فيها. لهذا تجد عدداً من الدول تقدّم تعهدات، وتنشيء لجان تحقيق وغيرها، ظنّاً منها أنها ستخرس المنظمات الحقوقية لبرهة من الزمن. ثم تكتشف بأن تلك المنظمات تلاحقها على ما تعهدت به وتحاسبها أيضاً، بل وتشهر بها أحياناً.

3/ الإعتقاد بأن الهجوم الإعلامي على المنظمات الحقوقية الدولية والتنديد بها سيؤدي الى انكفائها وتوقفها عن النقد، أو تخفيفه.

4/ الإعتقاد بأن المنظمات الحقوقية الدولية ضعيفة المكانة والتأثير ويمكن تجاهل تقاريرها وبياناتها، وعدم الرد عليها حتى تملّ وتخرس في النهاية. بل أن بعض الدول تعتقد أن أصل موضوع حقوق الإنسان وآلياته الدولية لا قيمة له، وبالتالي لا توليه أية أهمية من الأساس.

5/ الإعتقاد بسهولة الإلتفاف على المنظمات الدولية ومحاولة التأثير على سياساتها وموظفيها عبر أساليب الإغراء المالي أو المناصب.