الرد على (المؤامرة!) بإصلاح الداخل الحقوقي

لازال بعض اللاعبين السياسيين في البحرين، ومن ورائهم طيفٌ من شرائح مجتمعية يعتقدون أن ما يجري في البحرين مجرد مؤامرة دولية، تشارك فيها دول عديدة، اضافة الى منظمات حقوق الإنسان الدولية التي يعتبرونها مجرد أدوات تحركها أجهزة استخبارات دولية، وتستخدمها للتدخل وتشويه سمعة البلاد، وتمزيق النسيج الإجتماعي، بل ولإسقاط النظام.

وللحق، فإن بقاء هذه القناعة قارّة في الذهن العام، يعود في جزء اساس منها الى سياسة المعايير المزدوجة التي تمارسها دول غربية، فهناك الى جوار البحرين دولٌ عديدة متخلفة في نظامها السياسي، ولا تتمتع شعوبها بعشر الحريات العامة المتوفرة حالياً في البحرين، ويجري في تلك الدول كل أصناف الإنتهاكات، ومع هذا، فإنها لم تتعرّض لضغوط بحجم ما تتعرض له البحرين.

لكن اطلاق الإتهامات بشكل تعميمي خطأ فادح، ويؤسس لفهم خاطئ ومواقف خاطئة من المؤكد انها لا تخدم البحرين. ولتوضيح بعض مكامن الخطأ، نورد هذه الملاحظات:

أولاً ـ يغيب عن نظر البعض، حقيقة ذات أهمية تتعلق بمفهوم سيادة الدولة على أرضها وشعبها، كما تتعلق أيضاً بمبدأ في العلاقات الدولية يؤكد على (عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى). لقد طرأ تحوّل من الناحية العملية على هذا المفهوم، بحيث أصبح التدخل في شؤون الآخرين أمراً واقعاً، ومشرعنا، بل ومألوفاً، بناء على اتفاقيات دولية أخرى تتعلق بحقوق الإنسان، والتطور في القيمة الإعتبارية لها، وإلزامية تلك الحقوق بحيث أصبحت تضغط على كل الدول الموقعة على مواثيق حقوق الإنسان الدولية. لم يعد مقبولاً في العلاقات الدولية أن تمارس الدولة ـ أية دولة ـ ما تريده بحق شعبها، وتعتبر ذلك من شأنها الخاص، وبالتالي تنتظر صمتاً دولياً. هذا لم يحدث حتى مع الدول الكبرى الى هذا اليوم كالصين وروسيا، ولا يُنتظر أن يحدث مع الدول الأخرى. أصبح موضوع حقوق الإنسان (شأناً عالمياً) وليس (شأناً داخلياً محضاً).. وأصبحت تلك الحقوق مادّة أساسية مؤثرة في العلاقات الدولية.

وكما ذكرنا، فإن التدخل صار حقيقة نلحظها اليوم في أكثر من دولة عربية وغير عربية، الى حد إصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي، تفوّض باستخدام القوة العسكرية، ضد نظم تعتدي بقسوة على حقوق مواطنيها، كما حدث في ليبيا، وكما تجري المطالبات في سوريا. هذه المسألة يجب أن لا تغيب عن بال الفاعليات السياسية واصحاب القرار.

فالإحتجاج على التدخل الخارجي، في موضوع حقوقي، لم تعد له ـ شئنا أم أبينا ـ أّذُنٌ سميعة في عالم اليوم. وبالتالي لا بدّ من مقاربة أخرى، ولغة خطاب آخر، في التعاطي مع الدول المنتقدة لسجل حقوق الإنسان في بلداننا. إن مقولة: (ما لكم شغل بنا، هذا شأن داخلي)، أو (نحن أعرف بشؤوننا)، لا قيمة لها!

ثانياً ـ واضح من خلال التجربة البحرينية، وغيرها أيضاً، أن موضوع حقوق الإنسان، هو موضوع رئيس في العلاقات بين الدول، سواء كانت عدوّة أم صديقة أم منافسة. وإن مفردة (حقوق الإنسان) يمكن استخدامها من قبل أيّة دولة ضد أخرى. حتى الولايات المتحدة، هناك من يعرّض بسجلها الحقوقي، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في أكثر من مكان في العالم؛ ولسنا بعيدين زمنياً عن قضية سجن ابو غريب ولا سجن غوانتنامو، ولا عن التقارير الدولية السنوية التي تفرد صفحات مطولة عن سجل أميركا الحقوقي.

ليس استخدام مفردة (حقوق الإنسان) من قبل دول كبرى كأداة لانتقاد البحرين أمراً جديداً، حتى ولو كانت تصنّف في خانة الدول الصديقة. هناك العديد من الدول، لا تريد أن تصنّف نفسها في خانة الداعمين لمنتهكي حقوق الإنسان، فذلك يؤثر على سمعة الدولة المعنية نفسها، وعلى مصالحها، ومكانتها في الساحة الدولية.

ولأن موضوع حقوق الإنسان صار واحداً من معايير العلاقات الدولية؛ مثلما هو سلاح للتدخل في شؤون الدول الأخرى، فإن المنتقدين يمكن أن يُنتقدوا أيضاً وعلى ذات القاعدة. هذا مجال مفتوح لجميع الدول بلا استثناء. وبالتالي، فإن من الضروري أن تقفل الدول هذه البوابة من النقد الحادّ أو الناعم، وذلك عبر التقيّد والإلتزام بالمواثيق الدولية التي وقعت عليها، أو أن تتحمّل النقد وتمضي قدماً في انتهاكاتها، وتعرّض سمعتها وعلاقاتها الدولية الى التدهور.

الثالثة ـ من المؤكد أن موضوع حقوق الإنسان، ومهما أراد المرء أن يجرّده من خلفياته السياسية، فإنه لا يستطيع. لكنه ـ أي موضوع حقوق الإنسان ـ مستقلّ بذاته أيضاً، وله كينونته الخاصة، وهناك من يحسن استخدامه والإستفادة منه، لأغراض نبيلة، أو حتى لأغراض الإبتزاز السياسي، كما هو واضح في دول عديدة. لكن هذا النوع من الإبتزاز السياسي، رغم رفضنا له، لا يعني القبول بالإنتهاكات بادئ ذي بدء. فالأصل هو احترام حقوق الإنسان، وأما استغلال الموضوع من قبل آخرين، فإنه مجرد نتيجة لمشكلة أو خطأ، يجب تصحيحه. وهذا ما يفترض أن يهمنا بالذات.

فلكي نمنع الإستغلال، ونحدّ من التدخل الخارجي في شؤوننا، فإن علينا أن نصلح أوضاعنا الحقوقية، حتى لا نفتح النوافذ والأبواب ونقدم الذرائع لمن يريد أن يستغلّ ذلك، ربما لأهداف لا علاقة لها بحقوق الإنسان.

الرابعة ـ من المهم إدراك العصر الذي نعيشه اليوم. هناك شرق أوسط جديد يتشكل بخصوصيات محلية، أي أنه ليس نسخة من الغرب، وهو مدفوع بقوّة شعبيّة شبابية تختلف في رؤيتها وتطلعاتها عن الجيل الماضي. هذا الجيل المندفع يتطلّع للديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية في الحكم، ويتسلّح بأدوات العصر وتكنولوجيته الحديثة في الإتصال والتواصل. وهنا يبدو من العبث إغلاق خيارات الإصلاح، وإغلاق الأفهام عن العالم الذي يتشكّل من حولنا. نحن جزء من هذا العالم الذي يتشكّل، ونحن معنيّون بحفظ الإستقرار والأمن وفي نفس الوقت بتلبية التطلعات المشروعة لشعوبنا، وعلينا احترام خيارات الجمهور وترشيده، وليس الإلتفاف عليه وتحوير اهتمامته وإشباع جانب من رغباته (جوانب الرفاهية المعيشية) فحسب. ذلك أن مثل هذا الإشباع الجزئي ـ الذي هو حقّ هذا الجيل الجديد ـ لا يلغي تطلعاته السياسية. نحن بحاجة الى عقليّة تفهم هذا الجيل، وتدرك متغيرات العصر، وتحولات المفاهيم، في منطقتنا والعالم، حتى نستطيع التعاطي معها بخطاب عقلاني، وبرؤية رشيدة، تبني وطناً حرّاً وكريماً ومستقلاً ومستقراً ومحترماً.

يجب أن يكون خيارنا إصلاح وضعنا المحلّي الحقوقي والسياسي والتنموي، وأن نبذل جهداً كبيراً في هذا الإتجاه، وأن نتعاطى في نفس الوقت مع التقارير والبيانات التي تصدر من دول أو منظمات حقوقية بروح مسؤولة إن كانت تكشف عن مواطن الخطأ لدينا، ومثل هذه التقارير على حدّة بعضها، لن تتوقّف مطلقاً، ما لم يكن بيتنا نظيفاً، ويجب أن يكون همّنا أن يكون نظيفاً خالياً من الانتهاكات، مصححاً للأخطاء إن وقعت، فهذا لصالحنا شعباً ونظاماً سياسياً. فنحن أولى بأن نعيش في بيئة كريمة نظيفة، قبل أن يهمّنا نقد الآخرين لنا إن كانت تلك البيئة عكس ذلك.

هذا هو التحدّي الذي يواجهنا. وأما ما يثار من جدل في البحرين اليوم حول التدخل والتآمر الأجنبي، فما هو إلا انعكاس لضبابية الرؤية، والجمود في مناقشة التطورات اللحظية. ليس أمامنا ونحن نوجه النقد لمن ينتقد سجلنا الحقوقي سوى واحد من حلين: إما أن نصلح أوضاعنا الحقوقية ونسحب ذرائع النقد والتدخل؛ وإما أن نستمر في ارتكاب الأخطاء ونسيء لسمعتنا، ونعرّض علاقاتنا بحلفائنا وأصدقائنا للمخاطر. وسواء كان تدخل واشنطن أو لندن أو باريس أو بروكسل او جنيف، عبر النقد والضغط السياسي، بدوافع قيمية وأخلاقية، أو بدوافع مصلحية، أو بغرض الإبتزاز، فإن ذلك لا يزيد من الخيارات أمامنا، لمواجهة هكذا نوع من التدخل.